دخل سليمان مع البربر قرطبة ومحوا كثيرا من محاسنها ومحاسن أهلها كان من أكبر أمرائهم عليّ بن حمود ، وبلغ هشاما المؤيد وهو محبوس خبره واسمه ونسبه فدسّ إليه أن الدولة صائرة إليك ، وقال له : إن خاطري يحدثني أن هذا الرجل يقتلني ، يعني سليمان ، فإن فعل فخذ بثأري ، وكان هذا الأمر هو الذي قوّى نفس ابن حمّود على طلب الإمامة ، وحمله على الأخذ بثأر هشام المؤيد ، فكان المؤيد أحد من أخذ بثأره بعد موته.
وتولى بعد ذلك عليّ بن حمّود ، وبويع بقرطبة في قصرها في اليوم الذي قتل فيه سليمان المستعين ، وأخذ الناس بالإرهاب والسطوة ، وأذلّ رؤوس البربر ، وبرقت للعدل في أيامه بارقة خلّب (١) لم تكد تقد حتى خبت (٢) وجلس للمظالم ، وقدمت له جماعة من البربر في إجرام فضرب رقابهم ، وأهلهم وعشائرهم ينظرون ، وخرج يوما على باب عامر فالتقى فارسا من البربر وأمامه حمل عنب ، فاستوقفه وقال له : من أين لك هذا؟ فقال : أخذته كما يأخذ الناس ، فأمر بضرب عنقه ، ووضع رأسه وسط الحمل ، وطيف به في البلد ، واستمرّ على هذا مع أهل قرطبة في أحسن عشرة نحو ثمانية أشهر ، حتى بلغه قيام الأندلسيين بالمرتضى المروانيّ في شرق الأندلس ، فتغير عما كان عليه ، وعزم على إخلاء قرطبة وإبادة أهلها ، فلا يعود لأئمتهم بها سلطان آخر الدهر ، وأغضى للبربر عن ظلمهم فعاد البلاء إلى حاله ، وانتزع الإسلام من أهل قرطبة ، وهدم المنازل ، واستهان بالأكابر ، ووضع المغارم ، وقبض على جماعة من أعيانهم وألزمهم بمال ، فلما غرموه سرّحهم فلما جيء إليهم بدوابهم ليركبوها أمر من أخذ الدواب ، وتركهم ينزلون إلى منازلهم على أرجلهم ، وكان منهم أبو الحزم الذي ملك قرطبة بعد وصارت دولته بوراثة ولده معدودة في دول الطوائف ، فانجمعت عن عليّ النفوس ، وتوالى عليه الدعاء ، فقتله صبيان أغمار من صقالبة بني مروان في الحمام ، وكان قتله غرة ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة ، وكان الصقالبة ثلاثة فهربوا واختفوا في أماكن يعرفونها ، وصحّ عند الناس موته ، ففرحوا ، وكانت مدته كما مرّ نحو عامين ، وحققها بعض فقال : أحد وعشرون شهرا وستة أيام.
وكان الناصر عليّ بن حمود ـ على عجمته ، وبعده من الفضائل ـ يصغي إلى الأمداح ، ويثيب عليها ، ويظهر في ذلك آثار النسب العربيّ والكرم الهاشميّ ، ومن شعرائه المختصّين به ابن الحناط (٣) القرطبي ، ومن شعره قوله : [الكامل]
__________________
(١) خلّب : السحاب الذي يلمع برقه ولا مطرفيه.
(٢) تقد : تتّقد وتشتعل. وخبت : انطفأت.
(٣) في أ : ابن الخياط. والصحيح ما أثبتناه. انظر الذخيرة ج ١ ، ص ٣٩٠.