إلى أن بلغتها ، وقدرت الطريق بين الفسطاط والقاهرة وحققته بعد ذلك نحو ميلين ، ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة ، وتأملت أسوارا مثلمة سوداء وآفاقا مغبرة ، ودخلت من بابها وهو دون غلق يفضي إلى خراب معمور بمبان مشتتة (١) الوضع ، غير مستقيمة الشوارع ، قد بنيت من الطوب الأدكن (٢) والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة ، وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ، ويغض طرف الظريف ، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال ، إلى أن صرت في أسواقها الضيقة ، فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والرّوايا (٣) التي على الجمال ما لا تفي به إلا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع ، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع إشبيلية وجامع مرّاكش ، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء ، غير مزخرف ، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه ، وتنبسظ فيه ، وأبصرت العامة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق ، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما سوى ذلك ، والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير متحشمين لجري العادة عندهم بذلك ، وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل ، قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقا ، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع ، وفي زواياه العنكبوت قد عظم نسجه في السقف والأركان والحيطان ، والصبيان يلعبون في صحنه ، وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامة ، إلا أن مع ذلك على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذي في صحنه ، ولقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس (٤) دون منظر يوجب ذلك فعلمت أن ذلك سر مودع من وقوف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ساحته عند بنائه ، واستحسنت ما أبصرته من حلق المتصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن ، وسألت عن مواد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك ، ثم أخبرت أن اقتضاء ذلك يصعب إلا بالجاه والتعب ، ثم انفصلنا من هناك إلى ساحل النيل ، فرأيت ساحلا كدر التربة (٥) ، غير نظيف ولا متسع الساحة ، ولا مستقيم الاستطالة ، ولا عليه سور أبيض ، إلا أنه مع ذلك كثير العمارة
__________________
(١) في ب ، ه : «متشتتة الوضع».
(٢) الطوب : الآجر. والأدكن : المائل إلى السواد.
(٣) الروايا : جمع روية ، وهي المزادة فيها الماء.
(٤) في ه : «الارتياح والحسن».
(٥) في ب ، ه : «كرير التربة».