بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار النيل ، ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإني أقول حقا ، والنيل هنالك ضيق ، لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته (١) قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط ، وبحسن سورها المبيض الشامخ حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل ، وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدا من الفسطاط إلى الجزيرة ، وهو غير طويل ، ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة (٢) جسر آخر من الجزيرة إليه ، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب ، لأن هذين الجسرين قد احترما لحصولهما في حيز قلعة السلطان ، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما لموضع السلطان ، وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل ، فقلت : [بحر الطويل]
نزلنا من الفسطاط أحسن منزل |
|
بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد |
وقد جمعت فيه المراكب سحرة (٣) |
|
كسرب قطا أضحى يرفّ على ورد (٤) |
وأصبح يطفو الموج فيه ويرتمي |
|
ويطرب أحيانا ويلعب بالنرد |
حلا ماؤه كالرّيق ممن أحبّه |
|
فمدت عليه حلة من حلى الخد |
وقد كان مثل النهر من قبل مده |
|
فأصبح لما زاده المد كالورد |
وقلت هذه لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه ، وإنه يكون قبل المد الذي يزيد به ويفيض على أقطاره أبيض ، فإذا كان عباب النيل صار أحمر ، وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط. (٥) [بحر الرمل]
حبّذا الفسطاط من والدة |
|
جنّبت أولادها درّ الجفا (٦) |
يرد النيل إليها كدرا |
|
فإذا مازج أهليها صفا |
لطفوا فالمزن لا تألفهم |
|
خجلا لما رأتهم ألطفا |
ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط ، حتى إنهم ألطف من أهل القاهرة ، وبينهما نحو ميلين ، والحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام ، وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة ورعاية (٧) قدر الصحبة وكثرة الممازحة (٨) والألفة ما يطول ذكره.
__________________
(١) في ج : قلعة.
(٢) في ه : «ببر الجزيرة».
(٣) سحرة : آخر الليل قبيل الفجر.
(٤) الورد : الماء الذي يورد للشرب.
(٥) هو علم الدين أيدمر المحيوي التركي. له ديوان شعر (انظر فوات الوفيات ج ١ ص ١٤٠).
(٦) في ب ، ه : «جنبت أولادها دار الجفا».
(٧) في ب ، ه : «برعاية قدر الصحبة».
(٨) في ب : «الممازجة».