عن أنس بن مالك عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : فضل الله القرآن. ورحمته أن جعلكم من أهله (يعني أن هداكم إلى اتباعه). ومثله عن أبي سعيد الخدري والبراء موقوفا ، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن ، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة.
وجملة : (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين. وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة. والضمير عائد إلى اسم الإشارة ، أي ذلك خير مما يجمعون.
و (مِمَّا يَجْمَعُونَ) مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال.
قال تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) [الهمزة : ٢]. ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه.
وضمير (يَجْمَعُونَ) عائد إلى (النَّاسُ) في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) [يونس : ٥٧] بقرينة السياق وليس عائدا إلى ما عاد إليه ضمير (فَلْيَفْرَحُوا) فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها ، كقول عباس بن مرداس :
عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم |
|
بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا |
ضمير (أحرزوا) عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله : (جمعهم). وضمير (جمّعوا) عائد إلى المسلمين ، أي لو لا نحن لغنم المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم ، ومنه قوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) في سورة الروم [٩].
وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتمّ الظهور ، وهو أيضا المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذ ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر. وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١] وقال : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٤ ، ١٥] وقال : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧] ، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود : ٢٧]. وقد قال الله للنبيصلىاللهعليهوسلم : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٢ ،