أفادت قوّة النفي ومباعدة المنفي. وحسبك أنها يبنى عليها الجحود في نحو : ما كان ليفعل كذا.
فحصل من قوله السابق (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠] ومن قوله هنا : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثلاث فوائد : نفي الإشراك عن إبراهيم في جميع أزمنة الماضي ، وتجدّد نفي الإشراك تجدّدا مستمرّا ، وبراءته من الإشراك براءة تامة.
وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزّه عن أن تتعلّق به شوائب الإشراك لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلنا توحيدا لله بالإلهية ومجتثّا لوشيج الشرك. والشرائع الإلهية كلها وإن كانت تحذّر من الإشراك فقد امتاز القرآن من بينها بسدّ المنافذ التي يتسلّل منها الإشراك بصراحة أقواله وفصاحة بيانه ، وأنه لم يترك في ذلك كلاما متشابها كما قد يوجد في بعض الكتب الأخرى ، مثل ما جاء في التوراة من وصف اليهود بأبناء الله ، وما في الأناجيل من موهم بنوّة عيسى ـ عليهالسلام ـ لله سبحانه عما يصفون.
وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلىاللهعليهوسلم في خطبة حجّة الوداع : «أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه (أي أرض الإسلام) أبدا ، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم».
ومعنى اتّباع محمد ملّة إبراهيم الواقع في كثير من آيات القرآن أن دين الإسلام بني على أصول ملّة إبراهيم ، وهي أصول الفطرة ، والتوسّط بين الشدّة واللّين ، كما قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [سورة الحج : ٧٨].
وفي قضية أمر إبراهيم بذبح ولده ـ عليهماالسلام ـ ، ثم فدائه بذبح شاة رمز إلى الانتقال من شدّة الأديان الأخرى في قرابينها إلى سماحة دين الله الحنيف في القربان بالحيوان دون الآدمي. ولذلك قال تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [سورة الصافات : ١٠٧].
فالشريعة التي تبنى تفاصيلها وتفاريعها على أصول شريعة تعتبر كأنها تلك الشريعة. ولذلك قال المحققون من علمائنا : إن الحكم الثابت بالقياس في الإسلام يصح أن يقال إنه دين الله وإن كان لا يصح أن يقال : قاله الله. وليس المراد أن جميع ما جاء به الإسلام قد جاء به إبراهيم ـ عليهالسلام ـ إذ لا يخطر ذلك بالبال ، فإن الإسلام شريعة قانونية