وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملا على هذه الأحوال الثلاثة ؛ بل قد يكون الكلام حكمة مشتملا على غلظة ووعيد وخاليا عن المجادلة. وقد يكون مجادلة غير موعظة ، كقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
وكقول النبي صلىاللهعليهوسلم «إنك لتأكل المرباع وهو حرام في دينك» ، قاله لعديّ بن حاتم وهو نصراني قبل إسلامه.
ومن الإعجاز العلمي في القرآن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحقّ ، وهي البرهان والخطابة والجدل المعبّر عنها في علم المنطق بالصناعات وهي المقبولة من الصناعات. وأما السفسطة والشعر فيربأ عنهما الحكماء الصادقون بله الأنبياء والمرسلين.
قال فخر الدين : «إن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بدّ من أن تكون مبنيّة على حجّة. والمقصود من ذكر الحجّة إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب السامعين ، وإما إلزام الخصم وإفحامه.
أما القسم الأول فينقسم إلى قسمين لأن تلك الحجّة إما أن تكون حجّة حقيقية يقينية مبرأة من احتمال النقيض ، وإما أن لا تكون كذلك بل تكون مفيدة ظنا ظاهرا وإقناعا ، فظهر انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة :
أولها : الحجّة المفيدة للعقائد اليقينية وذلك هو المسمّى بالحكمة.
وثانيها : الأمارات الظنّية وهي الموعظة الحسنة.
وثالثها : الدلائل التي القصد منها إفحام الخصم وذلك هو الجدل.
وهو على قسمين ، لأنه : إما أن يكون مركّبا من مقدّمات مسلّمة عند الجمهور وهو الجدل الواقع على الوجه الأحسن ، وإما أن يكون مركّبا من مقدّمات باطلة يحاول قائلها ترويجها على المستمعين بالحيل الباطلة. وهذا لا يليق بأهل الفضل» اه.
وهذا هو المدعو في المنطق بالسفسطة ، ومنه المقدمات الشعرية وهي سفسطة مزوّقة.