نعم كلّما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة وقبح المخالفة أشد ، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشدّ من التنجز والإدانة ، لأنّها المرتبة العليا من الانكشاف ، وبهذا يظهر انّ القطع لا يتميز عن الظن والاحتمال في أصل المنجزية ، وإنّما يتميز عنهما في عدم إمكان تجريده عن تلك المنجزية (بأن يرخص على خلاف ما قطع) ، لأنّ الترخيص في مورده مستحيل ، وليس كذلك في حالات الظن والاحتمال ، فإنّ الترخيص الظاهري فيها ممكن ، لأنّه لا يتطلب أكثر من فرض الشك ، والشكّ موجود.
ومن هنا صحّ أن يقال بأنّ منجزية القطع غير معلقة ، بل ثابتة على الإطلاق ، وانّ منجزية غيره من الظن والاحتمال معلّقة ، لأنّها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهري في ترك التحفظ. (١)
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ القول بأنّ احتمال التكليف منجِّز للواقع عند العقل وإن لم يستوف المولى البيان الممكن غير تام ، وذلك لأنّ الاعتمادَ في التعذيب والمؤاخذة على مثل هذا الحكم العقلي ، إنّما يصحّ إذا كان ذلك الحكم من الأحكام العقلية الواضحة لدى العقلاء حتى يعتمد عليه المولى سبحانه في التنجيز والتعذيب ولكن المعلوم خلافها ، إذ لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء.
وثانياً : أنّ اتّفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى ولم يجد بياناً بأحد العنوانين ، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً وإلّا يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي وهو كما ترى.
وثالثاً : انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث
__________________
(١) دروس في علم الأُصول : الحلقة الثانية : ٣٢ ٣٣.