وعن الثاني من وجهين : أحدهما ـ أنّه قياس في اللغة ، وهو باطل ، وإن قلنا بجوازه في الأحكام. وثانيهما ـ بيان الفارق ، فإنّ النهي يقتضي انتفاء الحقيقة ، وهو إنّما يكون بانتفائها في جميع الأوقات * ، والأمر يقتضي إثباتها
__________________
به الاستدلال أوّلا من إبداء احتمال استناد انفهام عدم التكرار من دليل آخر خارج عن الأمر ، فيبقى الدليل سليما عن المعارض.
ويمكن دفعه : بأنّه لو صحّ ذلك لكان المنساق عن الأمر الملحوظ مجرّدا عن هذا الدليل هو التكرار ، والتالي باطل بقرينة سؤال سراقة بن مالك أو عكاشة عن تكرار الحجّ بعد الاطّلاع على الأمر ، بقوله : « أفي كلّ عام يا رسول الله »؟ (١) إذ لو كان الأمر بحسب الوضع للتكرار لما احتاج إلى السؤال ، كما هو الحال في جميع الحقائق المجرّد ألفاظها عن القرائن المنافية لها.
* هذا وما قبله مع ما بعده هو الواقع في كلام كلّ من تعرّض لردّ الاستدلال.
ومحصّله : أنّه قياس أوّلا ، وفي اللغة ثانيا ، ومع الفارق ثالثا ، وبيان الفارق من وجهين :
الأوّل : أنّ النهي طلب لترك الطبيعة ، وتركها لا يتحقّق ، إلاّ بالدوام والتكرار ، والأمر طلب لإيجاد الطبيعة وإيجادها يحصل بالمرّة ، ومبنى ذلك على قاعدة كلّيّة يترتّب عليها فوائد لطيفة وفروع شريفة في أبواب كثيرة أصوليّة وفقهيّة ، وهي إنّ الطبائع الّتي تعلّق بها الأحكام ـ خبريّة أو إنشائيّة ـ وإن كانت لطبعها تقتضي السراية إلى جميع أفرادها ، إلاّ أنّ الأحكام المتعلّقة بها من حيث اقتضاء السراية والعدم تختلف باعتبار كونها حكما بالوجود أو العدم ، فقولك : « أوجدت الماء أو الضرب » أو « الماء أو الضرب قد وجد » لا يقتضي إلاّ تعلّق الحكم بالطبيعة في ضمن فرد من أفرادها ، من غير فرق في ذلك باعتبار الزمان بين المضيّ وغيره ، ولا من حيث الأداء بين الخبر والإنشاء ، فقولك : « سأوجد الضرب » أو « أوجد الضرب » انشاء مندرج في ذلك ، كما أنّ قولك : « أعدمت الماء » و « إنّ الماء قد عدم » يقتضي تعلّق الحكم بالطبيعة في ضمن جميع الأفراد من غير فرق أيضا بين الأزمنة ولا بين الأداءين ، ولا فرق في ذلك كلّه بين كون الوجود والعدم مدلولا عليهما بالمطابقة كما ذكر من الأمثلة ، مضافا إلى « ثبت » و « وجب » و « تحقّق » و « حقّق » و « تقرّر » و « نفى » و « انعدم »
__________________
(١) مشكل الآثار ـ للطحاوي ـ ٢ : ٢٠٢.