فممّا قرّرنا تبيّن فساد ما لو اريد استناد الحكم بوجوب الفور إلى قاعدة وجوب الخروج عن العهدة يقينا فيما يحصل التكليف به يقينا كما سبق إلى بعض الأوهام ، فإنّ الاستناد بمثل ذلك مع وجود الإطلاق في لفظ الأمر الكاشف عن قابليّة المأمور به لجميع الوجوه كما ترى خروج عن قانون أهل العلم ، مع أنّه على تقدير جريانه لا يقضي إلاّ بالحكم الظاهري ومحلّ النزاع إنّما هو وجوب الفور في الواقع ، مع أنّ الشغل اليقيني إنّما يستدعي الفراغ اليقيني وأمّا وجوب تحصيله فورا فهو أمر آخر يحتاج إلى الدليل ، وأصل البراءة يدفعه لانتفاء الدليل عليه بخصوصه ، من غير فرق في ذلك بين فرض الفور قيدا للصحّة شرطا في المأمور به أو تكليفا آخر مستقلاّ برأسه ، كما هو المقرّر في محلّ آخر يأتي إن شاء ا.
فلا وجه لما قد يورد على عبارة المصنّف في دفع الإشكال من أنّه على هذا وإن لم يلزم التكليف بالمحال إلاّ أنّه إلتزام بوجوب الفور في العمل لتحصيل براءة الذمّة ، وإن لم يثبت كونه مدلول الصيغة لغة إذ جواز التأخير حينئذ مشروط بمعرفة لا يمكن تلك المعرفة فينحصر الامتثال في المبادرة ، حتّى يضطرّ إلى الجواب عن الإشكال بما لا يساعده التحقيق المتقدّم المنطبق على جميع القواعد ، وهو جعل جواز التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان منوطا بظنّ المكلّف وهو غير مجهول له حتّى يلزم التكليف بالمحال ، فيستمرّ جواز التأخير باستمرار ظنّ المكلّف بقاء زمان الإمكان ويتضيّق عند ظنّه بعدم إمكانه بعد ذلك ، وليس الجواز مشروطا بآخر أزمنة الإمكان في الواقع حتّى لا يكون معلوما للمكلّف.
فإنّ ذلك لا يرفع الإشكال بتمامه ، بل هو بالنسبة إلى عمدة الصور وهو ما إذا انتفى العلم أو الظنّ بكلّ من الطرفين.
لا (١) لما اعترض عليه بعض المحقّقين بأنّ جواز التأخير غير مشروط بمعرفة ممتنعة ، بدعوى : أنّ العلم بالجواز مشروط بمعرفة ممتنعة ، واللازم منه عدم حصول العلم بالجواز لا عدم الجواز في الواقع ، وتوقّف الجواز على العلم به ممنوع ، إلى أن قال : « فعلى هذا لو أخّر المكلّف الفعل المكلّف به ثمّ تيسّر له فعله لم يكن آثما وإلاّ أثم (٢) ولا امتناع في مثل هذا التكليف » فإنّه كلام قد وقع على خلاف التحقيق ، ضرورة أنّ إناطة الإثم وعدمه بتيسّر الفعل بعد التأخير وعدمه حتّى يلزم منه الإثم في صورتي العلم أو الظنّ ببقاء التيسّر
__________________
(١) متعلّق بقوله : « فلا وجه لما قد يورد على عبارة المصنّف الخ ».
(٢) وفي بعض النسخ هكذا : « وإن لم يوفّق له أصلا أثم الخ ».