نعم لمّا كان الآية واردة في شأن أهل الكتاب فلم تدلّ إلاّ على كون الأصل في كلّ واجب على أهل الكتاب أن يكون مع نيّة الإخلاص ، فلابدّ من انضمام الاستصحاب وأصالة عدم النسخ إليها ، أو إنضمام قوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) أي الثابتة ، وصفا لمقدّر اضيف إليه « الدين » كالملّة أو الشريعة ، على ما حكى عن الشيخ أبي علي في تفسير الآية ، نظرا إلى كون الاسم إشارة إلى ما وصف لأهل الكتاب ، والدّين القيّم إشارة إلى هذا الدين.
وأمّا ما يورد على الاستصحاب من أنّ جريانه فرع بقاء الموضوع وقد تغيّر جزما ، لأنّ ما أمر به أهل الكتاب من الصلاة وغيرها من عباداتهم غير ما هو ثابت في هذه الأمّة ، والمفروض أنّ المأمور به لم يكن مشتركا بين النوعين للجزم بكون ما هو ثابت لهم فاسدا ، فواضح الفساد بأنّ المراد بالموضوع الّذي يعتبر بقاؤه في مجرى الاستصحاب إنّما هو معروض الحكم الّذي اريد استصحابه ، وهو بالنسبة إلى وجوب النيّة ليس إلاّ النيّة ، وهو أمر واحد لا يختلف باختلاف الامم في عباداتهم ، والاختلاف في العبادات لا يقضي بتغيّرها جزما ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الاستدلال.
ولكن يردّه ـ على تقدير كون « اللام » للأجل والغاية ـ : أنّه لا يلائمه عطف قوله : « ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » على مدخول « اللام » بهذا المعنى كما يشهد به الذوق السليم ، نظرا إلى وجوب كون المعطوف في حكم المعطوف عليه ، فلو كان مدخول « اللام » غاية للأوامر للزم أن يكون المعطوفان أيضا من هذا القبيل ، بأن يكون إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة غاية للأوامر وهو متّضح الفساد ، لعدم انحصار الغرض من الأوامر فيهما جزما ، وهو قرينة ترجّح حمل « اللام » على المعنى الآخر وهو التقوّي.
ولو حمل « اللام » في قوله : « ليعبدوا » على الغاية كما هو المفروض ، وفيهما على التقوّي الملازم لكون المأمور به هو المدخول ، للزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بعنوان الحقيقة على فرض الاشتراك أو الحقيقة والمجاز على فرضيهما ، وهو كما ترى معركة للآراء مخالف لمذهب المحقّقين ، فهو إمّا غير جائز أو مرجوح ولا يصار إلى شيء منهما.
مع أنّه على تقدير كونه للغاية مطلقا ـ بعد الغضّ عمّا ذكر ـ أيضا لا يوجب المطلوب ، لكون المعنى المراد حينئذ : أنّ الغرض من الأوامر إنّما هو حصول العبادات المأمور بها عنهم ووقوعها في الخارج ليتقرّبوا به إلى الله تعالى ، فيكون مفاد الآية حينئذ : أنّ صدور
__________________
(١) البيّنة : ٥.