هذه الأوامر منه تعالى إنّما هو من مقتضى اللطف الواجب عليه الّذي هو عبارة عمّا يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ، وكذلك الغرض من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإنّهما أيضا لأجل حصول القرب والزلفى كما يستفاد من قوله تعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )(١).
مضافا إلى أنّ المعنى الّذي ذكروه لا يساعده عليه شيء من العرف واللغة ، إذ العبادة على ما يقتضيه الاستعمالات العرفيّة وتنصيص أهل اللغة هو التذلّل والانقياد وغاية الخضوع ، ويشهد بذلك أيضا أنّ المشركين كانوا يعبدون من دون الله ولم يكن العبادة منهم عبارة عن الإتيان بالمأمور به ، حيث لا أمر لهم في معبوداتهم ، وإنّما المراد بعبادتهم تذلّلهم لأصنامهم ، وهو المراد بقولهم : ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى )(٢) فلا مدخل للعبادة بهذا المعنى في الأعمال الّتي هي مناط الاستدلال من حيث اشتراطها واقترانها بقصد الإخلاص ، وإنّما المراد أنّهم امروا بما امروا ليحصل لهم التذلّل لله تعالى حال كونهم مخلصين له ما به التذلّل وهو الدين ، على أنّ التذلّل له قسمان :
أحدهما : كونه خالصا لوجهه الكريم من غير تشريك لغيره معه.
وثانيهما : كونه له مع تشريك غيره معه على ما هو دأب المشركين كما يدلّ عليه الآية المتقدّمة ، فيقام الآية للدلالة على أنّ مطلوبه تعالى هو القسم الأوّل خاصّة ، فيكون مفادها إرادة التوحيد في مقابلة الشرك ، على أنّ الإخلاص يكثر استعماله في التوحيد فقوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(٣) أي موحّدين إيّاه في دينهم ، ومن هنا سمّيت سورة التوحيد بكلمة الإخلاص كما لا يخفى.
ويشهد بما ذكرنا أيضا ما عن ابن عبّاس : من أنّ العبادة كلّما اطلقت في الكتاب العزيز يراد بها ما يقابل الكفر والشرك ، كما في قوله تعالى ( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي )(٤) و ( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ )(٥) ومنه قوله تعالى : ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ )(٦) الآية ، ولذلك ترى إقترانها كثيرا بذكر ما هو من أهمّ اصول الدين وفروعه ، كاقترانها في الآية المستدلّ بها بما هو من مهمّ آثار الموحّدين وهو الصلاة والزكاة ، ومن هذا الباب ما في قوله تعالى ( وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ
__________________
(١) العنكبوت : ٤٥.
(٢) الزمر : ٢.
(٣) الأعراف : ٢٩.
(٤) الزمر : ١٤.
(٥) الزمر : ١٥.
(٦) الكافرون : ١ ـ ٣.