ولكن يدفعه : أنّ هذا التخيير ليس كالتخيير في الواجبين المضيّقين المأمور بكلّ منهما صريحا مرادا من الخطاب ، بل هو تخيير يحكم به العقل بعد ملاحظة عدم إمكان الجمع بين المتعارضين ، ولا يلزم من ذلك تخصيص في الخطاب ولا استعماله الأمر في التخييري مع استعماله في العيني ، بل هو مستعمل في العيني فقط حتّى بالنسبة إلى المتعارضين ، ولا يلزم به التكليف بغير المقدور لكون كلّ منهما لو خلّي وطبعه ولا بشرط انضمام الآخر إليه مقدورا ، وإنّما يندرج في غير المقدور إذا لوحظ بشرط الانضمام ، وهو ليس بملحوظ في الخطاب جزما ولا معتبر في الامتثال قطعا ، غير أنّ قضيّة وجوب كلّ بعينه مسيس حاجة المكلّف إلى الجمع بينهما في الامتثال ، ولمّا كان ذلك غير ممكن له فالعقل الّذي يحكم عليه بوجوب الإطاعة بعينه في صورة الامكان يحكم عليه بالتخيير ويلزمه بامتثال الأمر في أحدهما لا بعينه لتمكّنه عنه ، حذرا عن الترجيح بلا مرجّح إن لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع وإلاّ فيلزمه بالأهمّ خاصّة لئلاّ يلزم التسوية بين الراجح والمرجوح ، وهو من أدلّة الشرع فيكون حكمه بالتخيير ممّا يمضيه الشارع أيضا فإذا حصل التلبّس بذلك الواحد على أحد الوجهين سقط التكليف عن الآخر المعارض له بطروّ الامتناع عليه حينئذ ، لأنّ بقاءه كحدوثه مشروط بالإمكان ، ولا يلزم بذلك خروج الواجب عن كونه واجبا لكونه من جهة انتفاء شرط وجوبه وهو ليس بمحذور ، وإلاّ لانتقض بما لو طرأه الامتناع بعد استقرار التكليف به ومضيّ زمان يسع وقوعه فيه في غير صورة المعارضة ، كما لو طرأه اختيارا أو اضطرارا ما سلب عنه الاختيار بعد كونه جامعا لجميع جهات الاختيار ، هذا إذا كان مضيّقا بالمعنى الأخصّ.
وأمّا لو كان مضيّقا بالمعنى الأعمّ كأداء الدين وردّ الوديعة عند المطالبة ونحوهما ، فلا يمتنع عليه بعد التلبّس بما يعارضه إلاّ التعجيل أو المبادرة فيسقط الأمر به خاصّة دون الأمر بأصل الفعل ، فيقع صحيحا لو أتى به بعد الفراغ عن الأوّل.
وبما قرّرنا بطل ما يقال ـ في الاستدلال على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ ـ : بأنّه لولاه وتلبّس به المكلّف كالصلاة بالنسبة إلى أداء الدين مثلا فإن بقى الخطاب بذلك الشيء لزم التكليف بالضدّين وهو محال ، وإلاّ خرج الواجب المضيّق عن كونه واجبا مضيّقا.
فإن قلت : فأيّ فائدة في ثبوت التكليف به مع كونه في معرض السقوط من غير