ولكن يبقى الإشكال فيما لو كان أحدهما أهمّ في الواقع أيضا وجعل الوجوب في غيره مشروطا بعدم التمكّن عنه ، بدعوى كون الأمر به مطلقا وبغيره مشروطا ، وإن كان يدفع الإشكال غير أنّه مبنيّ على ورودهما في كلام الغير العالم بالعواقب ، أو تجويز وقوع التعليق في خطاب العالم بها أيضا ، والأوّل خارج عن محطّ نظر الاصولي والثاني خلاف التحقيق على ما فصّلنا القول فيه في بحث المقدّمة ، إلاّ أن يحمل الأهميّة على الأفضليّة فيبقى الإشكال بحاله ، لكون الأهمّ حينئذ أفضل فردي الواجب التخييري وهو ينافي التعيين كما يقتضيه إطلاقهم.
ولكنّ الّذي يقتضيه الإنصاف : منع لزوم تعيين الأهمّ سواء ورد الخطاب به وبغيره على سبيل الإجمال أو التفصيل ، إذ لا دليل عليه من العقل والنقل وما تقدّم من التمسّك به من بناء العقلاء وقضاء القوّة العاقلة غير ثابت على إطلاقه.
نعم في ابتداء الأمر مع التردّد لا يبعد ثبوتها وأمّا بعد ثبوت الأمرين معا على التفصيل أو الإجمال لا أثر للأهمّيّة إلاّ في إفادة الأفضليّة ، سواء اريد بها ما لو كان المصلحة في أحد الواجبين أقوى منها في الآخر ، أو أنّه ما علم من الشارع الاهتمام في شأنه بتأكّدات كثيرة في حقّه إذ زيادة الثواب أو شدّة العقاب المترتّبتين عليه فعلا وتركا فالمحكّم حينئذ إنّما هو التخيير في الامتثال كما في المتساويين في الرتبة ، لأنّه لولاه لزم التخصيص في خطاب غير الأهمّ وهو ممّا لا داعي إليه في عقل ولا نقل ، وإن قلنا بثبوت التكليف في كلّ منهما على سبيل التعيين.
وثانيهما : ما أشرنا إليه سابقا من تعميم الحكم بالتخيير بالنسبة إلى الواجبين المتزاحمين اللذين استفيد وجوبهما ضمنا عن الخطاب الوارد بالعامّ الاصولي أو المنطقي بالوجه المتقدّم ، سواء كانا فردين من ماهيّة واحدة أو ماهيّتين مختلفتين ومن أمثلته إطاعة الوالدين المأمور بهما شرعا إذا اختلفا في الرأي ، كأن يأمر أحدهما بالكتابة والآخر بالنساجة ، أو يأمر أحدهما بالسفر وينهى عنه الآخر ، فإنّ البناء على التخيير حينئذ يوجب كون الخطاب مستعملا في أكثر من معنى ، إذ المفروض إرادة العيني في غير مورد التعارض وهو مرجوح أو غير جائز ، بخلاف ما لو بنى على التساقط حينئذ وطرحهما معا فإنّ غايته لزوم التخصيص وهو ليس بمنكر في الخطابات فيكون أولى أو المتعيّن ، فيلزم أن لا يكون ما عليه الأعلام في تزاحم الواجبين على ما ينبغي.