بـ « عن » لابدّ لها من مصحّح ، ولا يكون إلاّ بتضمينها معنى الإعراض ، والمنع من المخالفة على وجه الإعراض والتنفّر وعدم المبالاة لا يقتضي المنع عن المخالفة بدون ذلك.
واجيب عنه : بأنّ تعدية المخالفة بـ « عن » إنّما تقتضي تضمّنها الاعراض بالمعنى الأعمّ وهو صرف النفس عن الامتثال ، فيتمّ المقصود ، إذ كلّ مخالفة تتضمّن الإعراض بهذا المعنى ، بل كلّ ترك للمأمور به عمدا من دون عذر في معنى الميل والإعراض عنه ، وبذلك يوجّه كلام المصنّف ليتأتّى ما رامه من تتميم الاستدلال.
وأمّا ما يجاب عنه أيضا تارة : بأنّ اعتبار ذلك إنّما هو لمجرّد المحافظة على القاعدة النحويّة ، ولا يلزم من ذلك اعتباره في المعنى المراد.
واُخرى : بأنّ المعنى يستقيم حتّى مع عدم التضمين ، تعليلا بأنّ من الأفعال المتعدّية بنفسها ما يصحّ تعديته بحرف الجرّ أيضا بدون تضمين ، كقولك : « شكرته وشكرت له » فليس ممّا ينبغي الالتفات إليه ، فإنّ صحّة التراكيب النحويّة تدور على المعاني المرادة ، كما أنّ المعاني المرادة يستكشف عنها بملاحظة التراكيب النحويّة ، فكيف يتصوّر قيام وجه مصحّحا للتركيب النحوي وهو غير مرتبط بالمراد ، وتنظير محلّ البحث بما ذكر مبناه القياس مع الفارق فلا يعبأ به ، مع كونه فاسدا في نفسه.
نعم يمكن أن يجاب أيضا : بأنّ الالتزام بما ذكر من التأويل ليس لمجرّد المحافظة على القاعدة ، وهذا الغرض كما يتأتّى بما ذكر من التضمين فكذلك يتأتّى بارتكاب تجوّز بحمل « المخالفة » على المجاوزة ، على أنّ التضمين عبارة عندهم عن إشراب اللفظ معنى لفظ آخر وقد ذكر له وجوه :
أحدها : أن يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي ويضمر ما يتعدّى بالحرف المذكور في الكلام كما في قوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ )(١) فيكون المعنى : لا تأكلوا أموالهم ضامّين إيّاها إلى أموالكم.
وثانيها : عكس ذلك ، كأن يقال في الآية : لا تضمّوا أموالهم إلى أموالكم آكلين إيّاها.
وثالثها : أن يستعمل اللفظ في معناه الأصلي ويقصد بتبعيّته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ ، ولا ريب أنّ شيئا منها في المقام ليس بأولى ممّا ذكرناه من الاحتمال إن لم نقل بأولويّته لشيوع وروده في المحاورات ، مع مرجوحيّة بعض الوجوه
__________________
(١) النساء : ٢.