وأما الاعتراض على القول الثاني فهو أنّا لا نسلم تأويل المذكر بمؤنث يوافقه أو يلزمه ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : رأيت زيدا فكلّمتني وأكرمتني ، ورأيت هندا فكلّمني وأكرمني بناء على أنّ زيدا نفس وجثة وهندا شخص وشبح.
وأمّا قوله : «كفّا مخضّبا» فالكفّ قد يذكر كما في هذا البيت لفقدان علامات التأنيث ، وقد يؤنث كما في أكثر موارده ، وهذا أولى من التأويل كيلا تلزم المفسدة التي ذكرناها ، وحمل الرحمة على الإحسان بعيد ، لأنّ اللفظ إذا دلّ على معنى فإمّا أن يدلّ عليه على وجه الحقيقة أو المجاز ، والقسمان منتفيان هنا لأن حضور المعنى بالبال لازم عند إطلاق اللفظ في كلام القسمين لجواز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر ، لأنّ الرحمة قد توجد وافرة فيمن لا يتمكن من الإحسان أصلا ، كالوالدة الفقيرة بالنسبة إلى ولدها ، وقد يوجد الإحسان ممّن لا رحمة في طباعه ، كالملك القاسي فإنّه قد يحسن إلى بعض أعدائه لمصلحة نفسه أو ملكه ولا تلقى عنده رحمة ، وإذا تبيّن جواز انفكاك كل واحد عن الآخر فلا يجوز إطلاق أحدهما لى الآخر ، ولا انفكاك بين الكف وبين كونها عضوا ، لأنّ كل كفّ عضو وإن لم يكن كل عضو كفّا ، فبينهما ملازمة الخاص والعام والملازمة مصححة للمجاز ، ولا ملازمة بين الرحمة والإحسان كما بيّنا ، فيتعذر تأويل الرحمة بالإحسان ، وقد سلّمنا أنّ معنى القرب في البرّ أظهر منه في الرحمة ، ولكن هذا جواز إطلاق اسم أحدهما على الآخر ، لأنّ جواز الإطلاق منحصر في الحقيقة والمجاز ، وكلاهما معدوم فيما نحن فيه.
وأمّا قوله ثالثا : «إنه من باب حذف المضاف» فذلك إنّما يصحّ حيث يحسن ويتعيّن ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، فإنّه يتعيّن إضمار أهلها ، وهاهنا لا يصح إضمار المكان ولا يحسن ولا يتعيّن ، أمّا أنّه لا يصحّ فلأنّ الرحمة صفة الله تعالى ، والموصوف لا مكان له ، لأنّ البراهين القاطعة دلّت على أنّ ربّنا لا يحلّ مكانا وإلّا لكان جسما أو مفتقرا إلى جسم ، فكذلك صفته لا يكون لها مكان ، انتهى.
قال الشيخ علاء الدين التركماني : هذا غلط وغفلة لأنّ الرحمة من صفات الفعل لا من صفات الذات حتى يستحيل فيها المكان ، انتهى.
وأمّا أنّه لا يحسن ولا يتعيّن فلأنّهما فرعا الصحة ، وبطلان الأصل يقتضي بطلان الفرع ، وأمّا الظواهر المشعرة بإثبات المكان كقوله : «وارتفاع مكاني» (١) فيجب تأويلها جزما ، وإلّا لبطل حكم العقل ، ويلزم من بطلانه بطلان الشرع ، لأنّ صحّته لم تثبت إلّا بالعقل ، نعم لو أضمر أثر رحمة الله لكان قريبا.
__________________
(١) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (١ / ٥٠٠) رقم (١٠٤).