الرحمة المضافة إلى العباد ، ونظيره أنك تقول : كلام الله لأن الكلام عام ، ولا نقول : قرآن الله لأنّه خاص بكلام الله سبحانه ، والإنصاف أن يقال في هذا القول : إنّه لا يخلو أمر قائله من أمرين ، وذلك لأنه إمّا أن يدّعي أنّ الرحمة لفظ مشترك بين المطر وغيره ، وأنه موضوع بالأصالة للمطر كما أنه موضوع لغيره بالأصالة ، أو يدّعي أنه موضوع لغيره بالأصالة أو يدعي أنه موضوع لغير المطر بطريق الأصالة ، ثم تجوّز به عن الرحمة ، فإن ادّعي الأول فقد يمنع ذلك بأنّ الذهن إنما يتبادر عند إطلاق الرحمة إلى غير المطر ، والمشترك إنما حقه أن يكون على الاحتمال بالنسبة إلى معنييه أو معانيه ، لا يكون أحدها أولى من غيره وإنّما يتعيّن المراد بالقرينة ، ثم إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون :
ومن معانيها المطر ، فلو كانت موضوعة له لذكروها كما يذكرون معاني المشترك ، وإن ادّعي الثاني فيلزمه أن يجيز في فصيح الكلام : أرض مخضر ، وسماء مرتفع ورحمة واسع ، ويقول : أردت بالأرض المكان وبالسماء السقف وبالرحمة الإحسان ، وهذا ما لا يقول به أحد من النحويين ، وإنّما يقع ذلك في الشعر أو في نادر من الكلام وما هذه سبيله لا يخرج عليه كتاب الله تعالى الذي نزل بأفصح اللغات وأرجح العبارات وألطف الإشارات.
فإن قلت : فإني أجد في كلام كثير من المفسرين تخريج آيات من التنزيل على مثل ذلك ، كما قالوا في قوله سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] ثم قال تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) إنّه جاز حملا على المعنى القسمة وهو المقسوم.
قلت : الذي عليه أهل التحقيق أنّ الضمير عائد على ما من قوله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) أي : فارزقوهم من الذي تركه الوالدان على أنّ القسم والقسمة واقعان في العربية على المقسوم وقوعا كثيرا ، فلا يمتنع عود الضمير على القسمة مذكرا ، يدلك على ذلك قوله سبحانه : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) [القمر : ٢٨] أي : مقسوم بينهم.
واعلم أنّه لا بعد في أن يقال : إنّ التذكير في قوله سبحانه «قريب» لمجموع أمور من الأمور قدمناها.
فنقول : لمّا كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير ، وهي مقاربة للرّحم في اللفظ ، وكانت الرحمة هنا بمعنى المطر ، وكانت «قريب» على صيغة فعيل ، وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل الذي بمعنى مفعول جاز التذكير ، وليس هذا نقضا لما قدّمناه ، لأنّه لا يلزم من انتقاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتقاء اعتباره مع غيره.