أحدها : أن يقال : لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة لأنّ هذا موضع الضمير ، فإن قيل : إنّ ذلك ليس بواجب قلت : نعم ، ولكنّه مقتضى الظاهر ، وبهذا يصح الترجيح.
الثاني : أنّه إن أمكن الحمل على العام وهو مطلق الرحمة لا يعدل إلى الخاص ، لا يقال هذا إذا لم يعارض معارض يقتضي الحمل على الخاص ، كالتذكير هنا لأنّا نقول هذا إنّما يقال إذا لم يكن للتذكير وجه إلا الحمل على إرادة المطر كما ذكرت ، وليس الأمر هنا كذلك.
الثالث : أنّ الرحمة التي هي المطر لا تختصّ بالمحسنين ، لأنّ الله تعالى تكفّل برزق العباد طائعهم وعاصيهم ، وأمّا الرحمة التي هي الغفران والتجاوز فإنّها تختصّ في خطاب الشرع بالمحسنين المطيعين ، وإن كانت غير موقوفة عليهم لا شرعا ولا عقلا عند أهل الحق ، إلّا أنّ ذلك يذكر على سبيل التنشيط للمطيعين والتخويف للعاصين ، وهذا فيه لطف ، وقلّما يتنبّه له إلّا الأفراد ، ومن ثمّ زلّت أقدام المعتزلة ، فإنّهم يجدون في خطاب الشرع ما يقتضي تخصيص الغفران والتجاوز والإحسان بالمطيعين ، فينفون رحمة الله عن أصحاب العصيان ، فيحجرون واسعا : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥] ، (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠] ، (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) [المائدة : ١] ، هذا الذي فطرنا الله عليه من حسن الاعتقاد ، وإيّاه نسأل التوفية عليه بمنه وكرمه.
وهذا الوجه يمكن الجواب عنه بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالغفران بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان.
الرابع : أنّك لو قلت : إن مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة تمجّها الأسماع وتنبو عنها الطباع ، بخلاف «إن رحمة الله» ، فدلّ على أنّه ليس بمنزلته في المعنى ، وهذا الوجه يمكن الجواب عنه بأمرين :
أحدهما : أن يقال : لا ندّعي أنّ الرحمة بمعنى المطر ، بل إنّ مجموع رحمة الله استعمل مرادا به المطر.
والثاني : أنّ المطر معلوم أنّه من جهة الله سبحانه ، فإضافته إليه كأنها غير مفيدة ، بخلاف قولك : رحمة الله ، فإن الرحمة عامة ، فإن للعباد رحمة خلقها الله سبحانه يتراحمون بها بينهم ، فإذا أضيفت الرحمة إليه سبحانه أفاد أنّه ليس المقصود