قرطبة خذّل (١) عن نصرته الموالي العامريين أعداء المروانيين وأصحاب رياسة الثغور ، فأصغى ابن زيري إلى ذلك ، وكتب المرتضى إلى ابن زيري يدعوه لطاعته ، فقلب الكتاب ، وكتب في ظهره (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) [الكافرون : ١]. فأرسل إليه كتابا ثانيا يقول فيه : قد جئتك بجميع أبطال الأندلس وبالفرنج ، فماذا تصنع؟ وختم الكتاب بهذا البيت : [البسيط]
إن كنت منّا أبشر بخير |
|
أو لا فأيقن بكلّ شرّ |
فأمر الكتاب أن يحوّل الكتاب ويكتب في ظهره (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) [التكاثر : ١] السورة. فازداد حنقه ، وحمله الغيظ إلى أن ترك السير إلى حضرة الإمامة قرطبة ، وعدل إلى محاربته ، وهو يرى أن يصطلمه (٢) في ساعة من نهار ، ودامت الحرب أياما ، وأرسل ابن زيري إلى خيران يستنجزه وعده (٣) ، فأجابه : إنما توقفت حتى ترى مقدار حربنا وصبرنا ، ولو كنا ببواطننا معك ، فأثبت جمعك لنا ، ونحن ننهزم عنه ونخذله في غد.
ولما كان من الغد رأى أعلام خيران وأعلام منذر وأصحاب الثغور قد ولّت عنه ، فسقط في يد المرتضى ، وثبت حتى كادوا يأخذونه. واستحرّ القتل (٤) ، وصرع كثير من أصحابه ، فلما خاف القبض عليه ولّى ، فوضع عليه خيران عيونا فلحقوه بقرب وادي آش وقد جاوز بلاد البربر وأمن على نفسه ، فهجموا عليه ، فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى المريّة ، وقد حلّ بها خيران ومنذر ، فتحدث الناس أنهما اصطبحا عليه سرورا بهلاكه.
وبعد هذه الواقعة أذعن أهل الأندلس للبرابرة ، ولم يجتمع لهم بعدها جمع ينهضون به إليهم ، وضرب القاسم بن حمود سرادق المرتضى على نهر قرطبة ، وغشية خلق من النظارة وقلوبهم تتقطع حسرات ، وأنشد عباد بن ماء السماء قصيدته التي أولها : [الطويل](٥)
لك الخير خيران مضى لسبيله |
|
وأصبح أمر الله في ابن رسوله |
وتمكنت أمور القاسم ، وولّى وعزل ، وقال وفعل ، إلى أن كشف وجهه في خلع طاعته ابن أخيه يحيى بن عليّ ، وكتب من سبتة إلى أكابر البرابر بقرطبة : إنّ عمي أخذ ميراثي من أبي ، ثم إنه قدّم في ولاياتكم التي أخذتموها بسيوفكم العبيد والسودان ، وأنا أطلب ميراثي ،
__________________
(١) خذّل عن نصرته الموالي : أغراهم بالتقاعس عن نصرته.
(٢) يصطلمه : يستأصله.
(٣) يستنجزه وعده : يطلب منه إنجازه.
(٤) استحرّ القتل : اشتد وكثر.
(٥) في الذخيرة ج ١ ص ٣٩٦ : القصيدة لابن الحناط.