وأوليكم مناصبكم ، وأجعل العبيد والسودان كما هم عند الناس ، فأجابوه إلى ذلك ، فجمع ما عنده من المراكب وأعانه أخوه إدريس صاحب مالقة ، فجاز البحر بجمع وافر ، وحصل بمالقة مع أخيه ، وكتب له خيران صاحب المريّة مذكرا بما أسلفه في إعانة أبيه ، وأكد المودة فقال له أخوه إدريس : إن خيران رجل خداع ، فقال يحيى : ونحن منخدعون فيما لا يضرنا ، ثم إن يحيى أقبل إلى قرطبة واثقا بأن البرابر معه ، ففرّ القاسم إلى إشبيلية في خمسة فرسان من خواصه ليلة السبت ٢٨ من شهر ربيع الآخر سنة ٤١٣ (١) ، وحلّ يحيى بقرطبة ، فبايعه البرابر والسودان وأهل البلد يوم السبت مستهلّ جمادى الآخرة ، وكان يحيى من النجباء ، وأمه فاطمية ، وإنما كانت آفته العجب واصطناع السّفلة ، واشتطّ أكابر البرابر عليه ، وطلبوا ما وعدهم من إسقاط مراتب السودان ، فبذل لهم ذلك ، فلم يقنعوا منه ، وصاروا يفعلون معه ما يخرق الهيبة ويفرغ بيت المال ، وفرّ السودان إلى عمه بإشبيلية ، ومن البرابر ومن جند الأندلس من احتجب عنهم يحيى وتكبر عليهم ، ولم يمل إليه ملوك الطوائف ، وبقي منهم كثير على الخطبة لعمه القاسم ، إلى أن اختلّت الحال بحضرة قرطبة ، وأيقن يحيى أنه متى أقام بها قبض عليه ، وكان قد ولّى على سبتة أخاه إدريس ، وبلغه أن أهل مالقة خاطبوا خيران وكاتبوه ، فطمع خيران فيها ، وفرّ يحيى في خواصه تحت الليل إلى مالقة ، ولما بلغ القاسم فراره ركب من إشبيلية إلى قرطبة ، فخطب له بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ٤١٣ ، ولم تصلح الحال للقاسم منذ وصل إلى الحضرة ، ووقع الاختلاف ، وكان هوى السودان معه ، وهوى كثير من البرابر مع يحيى ، وهوى أهل قرطبة مع قائم من بني أمية يشيعون ذكره ولا يظهر ، وكثر الإرجاف بذلك (٢) ، ووقع الطلب على بني أمية فتفرقوا في البلاد ، ودخلوا في أغمار الناس ، وأخفوا زيّهم ، ثم إن الخلاف وقع بين البربر وأهل قرطبة ، وتكاثر البلديّون ، وأخرجوا القاسم وبرابرته فضرب خيمة بغربيها ، وقاتلهم مدّة خمسين يوما قتالا شديدا ، وبنى القرطبيون أبواب مدينتهم ، وقاتلوا القاسم من الأسوار إلى أن طال عليهم الحصار ، فهدموا بابا من الأبواب وخرجوا خرجة رجل واحد ، وصبروا ، فمنحهم الله تعالى الظفر ، وفر السودان مع القاسم إلى إشبيلية ، وفر البرابرة إلى يحيى وهو بمالقة ، وكان فرار القاسم من ظاهر قرطبة يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٤١٤.
وكان ابنه محمد بن القاسم واليا على إشبيلية ، وثقته المدبر لأمره محمد بن زيري من أكابر البرابرة ، وقاضيها محمد بن عباد ، فعمل القاضي لنفسه ، وهو جدّ المعتمد بن
__________________
(١) في ب ، ه : سنة ٤١٢ ه.
(٢) الإرجاف : الخوض في الأخبار السيئة وذكر الفتن.