من عمل غيره تعين أن المراد بذلك الكناية عن نهيه هو عن حصول ذلك الحزن في نفسه بأن يصرف عن نفسه أسبابه وملزوماته فيؤول إلى معنى لا تترك أقوالهم تحزنك ، وهذا كما يقولون : لا أرينّك تفعل كذا ، ولا أعرفنّك تفعل كذا ، فالمتكلم ينهى المخاطب عن أن يراه المتكلم فاعلا كذا. والمراد نهيه عن فعل ذلك حتى لا يراه المتكلم فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. والمعنى : لا تفعلن كذا فأراك تفعله. ومعنى (لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) لا تحزن لقولهم فيحزنك.
ومعلوم أن أقوال المشركين التي تحزن النبي هي أقوال التكذيب والاستهزاء ، فلذلك حذف مفعول القول لأن المصدر هنا نزل منزلة مصدر الفعل اللازم.
وجملة : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) تعليل لدفع الحزن عنه ، ولذلك فصلت عن جملة النهي كأنّ النبي يقول : كيف لا أحزن والمشركون يتطاولون علينا ويتوعدوننا وهم أهل عزة ومنعة ، فأجيب بأن عزتهم كالعدم لأنها محدودة وزائلة والعزة الحق لله الذي أرسلك. وهي أيضا في محل استئناف بياني. وكل جملة كان مضمونها علة للتي قبلها تكون أيضا استئنافا بيانيا ، فالاستئناف البياني أعم من التعليل. وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بها ، ولأنّه يفيد مفاد لام التعليل وفاء التفريع في مثل هذا المقام الذي لا يقصد فيه دفع إنكار من المخاطب.
ويحسن الوقف على كلمة (قَوْلُهُمْ) لكي لا يتوهم بعض من يسمع جملة (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فيحسبه مقولا لقولهم فيتطلب لما ذا يكون هذا القول سببا لحزن الرسولصلىاللهعليهوسلم. وكيف يحزن الرسول صلىاللهعليهوسلم من قولهم : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) وإن كان في المقام ما يهدي السّامع سريعا إلى المقصود.
ونظير هذا الإيهام ما حكي أنّ ابن قتيبة (وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة) ذكر قراءة أبي حيوة (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) ـ بفتح همزة (أن) ـ وأعرب بدلا من (قولهم) فحكم أنّ هذه القراءة كفر. حكى ذلك عنه ابن عطيّة. وأشار إلى ذلك في «الكشاف» فقال : «ومن جعله بدلا من (قولهم) ثم أنكره فالمنكر هو تخريجه».
ولعل ابن قتيبة أراد أن كسر الهمزة وإن كان محتملا لأن تكون الجملة بعدها معمولة ل (قَوْلُهُمْ) لأن شأن (إن) بعد فعل القول أن لا تكون بفتح الهمزة لكن ذلك احتمال غير متعيّن لأنّه يحتمل أيضا أن تكون الجملة استئنافا ، والسياق يعيّن الاحتمال الصحيح.