قهرته الحجة وبهره سلطان الحقّ ، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محكّ النقد.
«ولا بدّ للمغلوب من بارد العذر»
وإذ قد اشتهر بين الدّهماء من ذوي الأوهام أنّ السحر يظهر الشيء في صورة ضدّه ، ادّعى هؤلاء أنّ ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحقّ بتخييل السحر.
ومعنى ادّعاء الحقّ سحرا أنّ دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات ، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين ، وقد حملهم استشعارهم وهن معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبّت صاحبه فأكّدوا الكلام بما دلّ عليه حرف التوكيد ولام الابتداء (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ) ، وزادوا ذلك ترويجا بأن وصفوا السّحر بكونه مبينا ، أي شديد الوضوح. والمبين اسم فاعل من أبان القاصر ، مرادف بان : ظهر.
والإشارة بقوله : (إِنَّ هذا) إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية ، وخروج اليد بيضاء ، أي أنّ هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين.
وجملة : (قالَ مُوسى) مجاوبة منه عن كلامهم ففصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ، إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] ، ونظائره الكثيرة. تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة ، ولأن المعجزات ظهرت على يديه.
واستفهام (أَتَقُولُونَ) إنكاري. واللام في (لِلْحَقِ) لام التعليل. وبعضهم يسميها لام البيان. وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى (عن).
وجملة : (أَسِحْرٌ هذا) مستأنفة للتوبيخ والإنكار ، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر. والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم ، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء. ولذلك كان مفعول أَتَقُولُونَ) محذوفا لدلالة الكلام عليه وهو (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) فالتقدير : أتقولون هذا القول للحق لمّا جاءكم. وقريب منه قوله تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ