شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوّأهم الله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء ، فجعلوا لله شركاء ، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم. فوقع في الكلام إيجاز حذف. وتقدير معناه : فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم.
والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد. وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخلف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل (اكتسب) مبالغة في (كسب) ، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أنّ ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوّأهم الله مبوّأ صدق. وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء. وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله : (جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [آل عمران : ١٩].
وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعملوا بما جاءوهم به ، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
فعن ابن عباس : هم اليهود الذين كانوا في زمن النبي محمد صلىاللهعليهوسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبي يأتي ، فلما جاءهم العلم ، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، قال ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع.
ويجوز أن يكون العلم هو القرآن ، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩] ، وقوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] فإن البينة هي محمد صلىاللهعليهوسلم لأن قبل هذا قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [البينة : ١ ، ٢] الآية. وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].
وهذا المحمل هو المناسب لحرف (حتى) في قوله تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ).
وتعقيب (فَمَا اخْتَلَفُوا) بالغاية يؤذن بأنّ ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر ، أي فبقوا