و (لو لا) حرف يرد لمعان منها التوبيخ ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط ، لأن أهل القرى قد انقضوا ، وذلك أن أصل معنى (لو لا) التحضيض ، وهو طلب الفعل بحثّ ، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته ، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) [النور : ١٦]. وإذا توجه الكلام الذي فيه (لو لا) إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه ، كقوله : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) [النور : ١٣] وقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) [الأنعام : ٤٣] وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود (كان) الدالة على المضي والانقضاء. والمقصود : التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنن أهل القرى. قال تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٦] ، ونظير هذه الآية استعمالا ومعنى قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) [هود : ١١٦] ، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب.
والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس ، توقعا لنزول العذاب ، وقبل أن ينزل بهم العذاب ، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى ، وأن ليست لقوم يونس خصوصية ، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناء منقطعا.
وإذ كان الكلام تغليطا لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل ، وتعريضا بالتحذير مما وقعوا فيه. كان الكلام إثباتا صريحا ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري : «يا أهل ذا المغني وقيتم ضرا» أي كل ضر لا ضرا معينا ، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم ، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله: (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فهذا وجه تفسير الآية. وجرى عليه كلام العكبري في «إعراب القرآن» ، والكواشي في «التخليص» وجمهور المفسرين جعلوا جملة : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) في قوة المنفية ، وجعلوا الاستثناء منقطعا منصوبا ولا داعي إلى ذلك.
وجملة : (لَمَّا آمَنُوا) مستأنفة لتفصيل مجمل معنى الاستثناء. وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب. وذلك حالهم عند ما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعدة ، فيكاد يحل بهم عذاب