ومنهم من حمل (فارَ) و (التَّنُّورُ) على الحقيقة ، وأخرج الكلام مخرج التمثيل لاشتداد الحال ، كما يقال : حمي الوطيس. وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون : وأنشد الطبرسي قول الشاعر. وهو النابغة الجعدي :
تفور علينا قدرهم فنديمها |
|
ونفثأها عنّا إذا قدرها غلى |
يريد بالقدر الحرب ، ونفثأها ، أي نسكنها ، يقال : فثأ القدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها. وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين.
والذي يظهر لي أن قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) مثل لبلوغ الشيء إلى أقصى ما يتحمل مثله ، كما يقال : بلغ السيل الزبى ، وامتلأ الصاع ، وفاضت الكأس وتفاقم.
والتنور : محفل الوادي ، أي ضفته ، فيكون مثل طما الوادي من قبيل بلغ السيل الزبى. والمعنى : بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغا لا يغتفر لهم بعد كما قال تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥].
والتنور : اسم لموقد النار للخبز. وزعمه. الليث مما اتفقت فيه اللغات ، أي كالصابون والسمور. ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس. وقال أبو منصور : كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي.
والدليل على ذلك أنه فعوّل من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل ، وقال غيره : ليس في كلام العرب نون قبل راء فإن نرجس معرب أيضا. وقد عدّ في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن. ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد. قال أبو علي الفارسي : وزنه فعول. وعن ثعلب أنه عربي ، قال : وزنه تفعول من النور (أي فالتاء زائدة) وأصله تنوور بواوين ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفا ثم شددت النون عوضا عما حذف أي مثل قوله : تقضّى البازي بمعنى تقضّض.
وقرأ الجمهور (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) بإضافة (كُلٍ) إلى (زَوْجَيْنِ).
والزوج : شيء يكون ثانيا لآخر في حالة. وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجا له ، وكل منهما زوج للآخر. والمراد ب (زَوْجَيْنِ) هنا الذكر والأنثى من النوع ، كما يدل عليه إضافة (كُلٍ) إلى (زَوْجَيْنِ) ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع.