فعند من قرأ (إن) مخفّفة وشدّة الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون (إن) مخفّفة من الثقيلة ، وأمّا من شدّد النون (إنّ) وشدّد الميم من (لمّا) وهم ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله القراء : إنّها بمعنى (لمن ما) فحذف إحدى الميمات الثلاث ، يريد أنّ (لمّا) ليست كلمة واحدة وإن كانت في صورتها كصورة حرف (لمّا) في رسم المصحف (لأنّه اتّبع فيه صورة النطق بها) وإنّما هي مركّبة من لام الابتداء و (من) الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرّر الفعل كالتي في قول أبي حية النمري :
وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة |
|
على رأسه تلقي اللسان من الفم |
أي نكثر ضرب الكبش ، أي أمير جيش العدوّ على رأسه. وقول ابن عبّاس : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يلاقي من الوحي شدّة ، وكان ممّا يحرّك لسانه حين ينزل عليه القرآن ، فقال الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] الآية. فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات : وإنّ كلا لمن ما ليوفينهم ، فلمّا قلبت نون (من) ميما لإدغامها في ميم (ما) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا وهي ميم (من) لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأنّ أصل الميم الثّانية نون (من) فصار (لمّا).
ولام (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لام قسم.
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به.
والمعنى : وإنّ جميعهم للاقون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد ، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حقّقه الله ولم يسامح فيه. فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النّحوي (١) ومشى عليه البيضاوي. وقد أنهاها أبو شامة في «شرح منظومة الشّاطبي» إلى ستّة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه.
وفي تفسير الفخر : سمعت بعض الأفاضل قال : إنّ الله تعالى لمّا أخبر عن توفية الأجزية على المستحقّين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التّوكيدات ، أوّلها : كلمة
__________________
(١) هو نصر بن علي بن محمد الشيرازي الفسوي الفارسي المعروف بأبي مريم ، خطيب شيراز. له «تفسير القرآن» ، و«شرح إيضاح أبي علي الفارسي». كان حيا سنة ٥٦٥.