وتأكيد الجملة بحرف (إِنَ) للاهتمام وتحقيق الخبر. و (إِنَ) فيه مفيدة معنى التّعليل والتفريع ، وهذا التعليل مؤذن بأنّ الله جعل الحسنات يذهبن السيّئات ، والتّعليل مشعر بعموم أصحاب الحسنات لأنّ الشأن أن تكون العلّة أعم من المعلول مع ما يقتضيه تعريف الجمع باللّام من العموم.
وإذهاب السيّئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النّفس إلى ترك السّيئات سهلا وهيّنا كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)[العنكبوت : ٤٥] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها. ويشمل أيضا محو إثمها إذا وقعت ، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها فضلا من الله على عباده الصالحين.
ومحمل السيّئات هنا على السيّئات الصغائر التي هي من اللّمم حملا لمطلق هذه الآية على مقيد آية (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] وقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] ، فيحصل من مجموع الآيات أنّ اجتناب الفواحش جعله الله سببا لغفران الصغائر أو أنّ الإتيان بالحسنات يذهب أثر السيئات الصغائر ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) في سورة النّساء [٣١].
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود ـ رضياللهعنه ـ : أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فذكرت ذلك فأنزلت عليه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) فقال الرجل : ألي هذه؟ قال : لمن عمل بها من أمّتي.
وروى الترمذي عن ابن مسعود رضياللهعنه قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّي عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها وها أنا ذا فاقض فيّ ما شئت ، فلم يرد عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رجلا فدعاه فتلا عليه وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) إلى آخر الآية ، فقال رجل من القوم : هذا له خاصة؟ قال : لا ، بل للنّاس كافة. قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وأخرج الترمذي حديثين آخرين : أحدهما عن معاذ بن جبل ، والآخر عن أبي اليسر وهو صاحب القصة وضعّفهما. والظاهر أن المرويّ في هذه الآية هو الذي حمل ابن عبّاس وقتادة على القول بأنّ هذه الآية مدنيّة دون بقية هذه السورة لأنه وقع عند البخاري والترمذي قوله : (فأنزلت عليه) فإن كان كذلك كما ذكره الرّاوي فهذه الآية ألحقت بهذه السورة في هذا المكان لمناسبة وقوع قوله: (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] قبلها وقوله : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ