بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن ، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالا معتادا وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطوارا وتدرجا. فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رباني محض ، وأن هذا الكلام موحى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه.
فما كان هذا الكلام دليلا على المشركين وإبطالا لا دعائهم إلا لما بنى على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه ، ثم لما فرع عليه جملة : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) إذ كان تذكيرا لهم بحاله قبل أن يتلو عليهم القرآن ولو لا ذانك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة ، أي استدلالا بعين الدعوى لأنهم ينهض لهم أن يقولوا حينئذ : ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله.
فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية.
وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية. ولكلمة تَلَوْتُهُ) هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تاليا كلاما ، ومتلوا ، وباعثا بذلك المتلو.
فبالأول : تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم.
وبالثاني : تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها ، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٨ ، ٤٩].
وبالثالث : تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى ، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبي صلىاللهعليهوسلم في رسالته عن الله تعالى.
والتلاوة : قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلّغ. وقد تقدمت عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في سورة البقرة [١٠٢] ، وعند قوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) في سورة الأنفال [٢].