عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦))
هذا جواب عن لازم اقتراحهم وكنايته عن رميهم الرسول صلىاللهعليهوسلم بالكذب عن الله فيما ادعى من إرساله وإنزال القرآن عليه كما تقدم في الجواب قبله. ولكونه جوابا مستقلا عن معنى قصدوه من كلامهم جاء الأمر به مفصولا عن الأول غير معطوف عليه تنبيها على استقلاله وأنه ليس بتكملة للجواب الأول.
وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى ، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليل التفّت في مطاويه أدلة ، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب ، إذ قوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ) تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته. فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه ، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدّعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله ، فكان الاستدلال إبطالا لدعواهم ابتداء وإثباتا لدعواه مآلا. وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال ، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري.
والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب (لو) ، فإن جواب (لو) يقتضي استدراكا مطردا في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب ، فقد يستغنى عن ذكره وقد يذكر ، كقول أبي بن سلمى بن ربيعة :
فلو طار ذو حافر قبلها |
|
لطارت ولكنه لم يطر |
فتقديره هنا : لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم. وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه عليما إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة ، وبلاغيا إذ جاء كلاما أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم ، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقا على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثله أحد منهم.
ولذلك فرعت على الاستدلال جملة : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) تذكيرا لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية ، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة ، وهي أربعون سنة ، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمة ، والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحى الله إليه بالرسالة ، ولا بلاغة قول واشتهارا