ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تشبه به رغبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم ، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس ، وتشبيه سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام ، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) [محمد : ١٢].
والقول في (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) كالقول في قوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) [يونس : ٢٢] ، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء.
وأمر الله : تقديره وتكوينه. وإتيانه : إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء. وفي معنى الغاية المستفاد من (حتى) ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطوارا كثيرة ، فذلك طوي في معنى (حتى).
وقوله : (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت.
والزخرف : اسم الذهب. وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي.
وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارة مكنية. شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان. والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ ، قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: ٣١] ، وقال بشار بن برد :
وخذي ملابس زينة |
|
ومصبّغات وهي أفخر |
وذكر (ازَّيَّنَتْ) عقب (زُخْرُفَها) ترشيح للاستعارة ، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين. و (ازَّيَّنَتْ) أصله تزينت فقلبت التاء زايا ؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.
واعلم أن في قوله تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) إشارة لإرادة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم ، كقوله تعالى : (حَتَّى