أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها. واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضا بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية. و (رَبُّكُمُ) خبر. (الْحَقُ) صفة له. وتقدم الوصف بالحق آنفا في الآية مثل هذه.
والفاء في قوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل ، فهو تفريع على تفريع وتفريع بعد تفريع.
و (فَما ذا) مركّب من (ما) الاستفهامية و (ذا) الذي هو اسم إشارة. وهو يقع بعد (ما) الاستفهامية كثيرا. وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لمجرد التأكيد. ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنبا من إلزام أن يكون الاسم مزيدا كما هنا. وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) في سورة البقرة [٢٦]. وانظر ما يأتي عند قوله : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) في هذه السورة [٥٠].
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله : (إِلَّا الضَّلالُ).
و (بَعْدَ) هنا مستعملة في معنى (غير) باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايره وعند انتفائه. فالمعنى : ما الذي يكون إثر انتفاء الحق.
ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهم عنه تعيّن أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله : (إِلَّا الضَّلالُ). فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما. فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل. وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل.
والفاء في (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) للتفريع أيضا ، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال.
و (فَأَنَّى) استفهام عن المكان ، أي إلى مكان تصرفكم عقولكم. وهو مكان اعتباري ، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطّريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقا غير موصولة فهو يصرف من ضلال إلى ضلال. قال ابن عطية : وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفسير براعة وإيجازا ووضوحا.
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) : الأولى جوابية ، والثانية فصيحة ، والبواقي تفريعية.