بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله : (وَمِنْهُمْ) في الموضعين ، فطويت جملة : ولا ينتفعون أو نحوها للإيجاز بدلالة التقسيم. وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر. والحرمان من الاهتداء مع ذلك التكرر أعجب.
فجملة : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) تفريع على جملة : (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) مع ما طوي فيها. وفي هذا التفريع بيان لسبب عدم انتفاعهم بسماع كلام النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتسلية له وتعليم للمسلمين ، فقربت إليهم هذه الحالة الغريبة بأن أولئك المستمعين بمنزلة صم لا يعقلون في أنهم حرموا التأثر بما يسمعون من الكلام فساووا الصم الذين لا يعقلون في ذلك ، وهذه استعارة مصرحة إذ جعلهم نفس الصم.
وبني على ذلك استفهام عن التمكن من إسماع هؤلاء الصم وهدي هؤلاء العمي مع أنهم قد ضموا إلى صممهم عدم العقل وضموا إلى عماهم عدم التبصر. وهذان الاستفهامان مستعملان في التعجيب من حالهم إذ يستمعون إلى دعوة النبي صلىاللهعليهوسلم ولا يعقلونها ، وإذ ينظرون أعماله وسيرته ولا يهتدون بها ، فليس في هذين الاستفهامين معنى الإنكار على محاولة النبي إبلاغهم وهديهم لأن المقام ينبو عن ذلك.
وهذه المعاني المجازية تختلف باختلاف المقام والقرائن ، فلذلك لم يكن الاستفهامان إنكارا ، ولذلك لا يتوهم إشكال بأن موقع (لو) الوصلية هنا بعد ما هو بمعنى النفي بحيث تنتقض المبالغة التي اجتلبت لها (لو) الوصلية ، بل المعنى بالعكس.
وفي هذين الاستفهامين ترشيح لاستعارة الصم والعمي لهؤلاء الكافرين ، أي أن الله لما خلق نفوسهم مفطورة على المكابرة والعناد وبغضاء من أنعم الله عليه وحسده كانت هاته الخصال حوائل بينهم وبين التأثر بالمسموعات والمبصرات فجيء بصيغة الاستفهام التعجيبي المشتملة على تقوّي الخبر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ) وقوله : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي) دون أن يقال : أتسمع الصم و (تَهْدِي الْعُمْيَ) ، فكان هذا التعجيب مؤكدا مقوى.
و (لو) في قوله : (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) وقوله : (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ، وصلية دالة على المبالغة في الأحوال ، وهي التي يكون الذي بعدها أقصى ما يعلق به الغرض. ولذلك يقدرون لتفسير معناها جملة قبل جملة (لو) مضمونها ضد الجملة التي دخلت عليها (لو) ، فيقال هنا : أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون بل ولو كانوا لا يعقلون.