النبوءة». وقد بيّن تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث. وقال : «لم يبق من النبوءة إلا المبشّرات وهي الرؤيا الصّالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له».
وإنّما شرطت المرائي الصادقة بالنّاس الصّالحين لأنّ الارتياض على الأعمال الصّالحة شاغل للنفس عن السيّئات ، ولأنّ الأعمال الصّالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتّصال بعالمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه ، وبعكس ذلك الأعمال السيّئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها.
والرؤيا مراتب :
منها أن : ترى صور أفعال تتحقّق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم أنه يهاجر من مكّة إلى أرض ذات نخل ، وظنّه أنّ تلك الأرض اليمامة فظهر أنّها المدينة ، ولا شك أنّه لمّا رأى المدينة وجدها مطابقة للصّورة التي رآها ، ومثل رؤياه امرأة في سرقة من حرير فقيل له اكشفها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة ، فعلم أن سيتزوجها. وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية.
ومنها أن ترى صور تكون رموزا للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع ، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيّلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني ، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء ، إلّا أنّ هذا تخترعه الألباب في حالة هدوّ الدماغ من الشواغل الشاغلة ، فيكون أتقن وأصدق. وهذا أكثر أنواع المرائي. ومنه رؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم أنّه يشرب من قدح لبن حتى رأى الريّ في أظفاره ثم أعطى فضله عمر بن الخطّاب ـ رضياللهعنه ـ. وتعبيره ذلك بأنّه العلم.
وكذلك رؤياه امرأة سوداء ناشرة شعرها خارجة من المدينة إلى الجحفة ، فعبّرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة ، ورئي عبد الله بن سلام أنه في روضة ، وأنّ فيها عمودا ، وأنّ فيه عروة ، وأنّه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود ، فعبّره النبيصلىاللهعليهوسلم بأنّه لا يزال آخذا بالإيمان الذي هو العروة الوثقى ، وأنّ الروضة هي الجنّة ، فقد تطابق التمثيل النوميّ مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [سورة البقرة : ٢٥٦] ، وفي قول النبيصلىاللهعليهوسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة».