وقوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) تمثيل لحالات استئصال الأمم ، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول. أي المبنى ، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر.
وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام. قال عبدة بن الطبيب :
فما كان قيس هلكه هلك واحد |
|
ولكنّه بنيان قوم تهدّما |
وقالت سعدة أمّ الكميت بن معروف :
بنى لك معروف بناء هدمته |
|
وللشرف العاديّ بان وهادم |
و (مِنَ الْقَواعِدِ) متعلق ب «أتى». (وَمِنْ) ابتدائيّة ، ومجرورها هو مبدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال ، فهو في معنى هدمه.
و (الْقَواعِدِ) : الأسس والأساطين التي تجعل عمدا للبناء يقام عليها السقف. وهو تخييل أو ترشيح ، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد.
والخرور : السقوط والهويّ ، ففعل خرّ مستعار لزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) [سورة الحشر : ٢].
و (السَّقْفُ) : حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت ، يجعل على الجدران ويكون من حجر ومن أعواد ، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء.
و (مِنْ فَوْقِهِمْ) تأكيد لجملة فسخر عليهم السقف.
ومن مجموع هذه الاستعارات تتركّب الاستعارة التمثيليّة. وهي تشبيه هيئة القوم الّذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزّة بهيئة قوم أقاموا بنيانا عظيما ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعا. فهذا من أبدع التمثيليّة لأنها تنحلّ إلى عدّة استعارات.
وجملة (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ) عطف على جملة (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ). وأل في (الْعَذابُ) للعهد فهي مفيدة مضمون قوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) مع زيادة قوله تعالى: (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ). فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن الموكدة أن لا تعطف. والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فجأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجا فإنّ