وفي الجمع بين (هاجَرُوا) و (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) محسّن الطباق. والمعنى : لنجازينّهم جزاء حسنا. فعبر عن الجزاء بالتّبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة.
و (حَسَنَةً) صفة لمصدر محذوف جار على «نبوئنهم» ، أي تبوئة حسنة.
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأهليهم وأموالهم ، وما لاقوه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومذلّة وفتنة ، فالحسنة تشتمل على تعويضهم ديارا خيرا من ديارهم ، ووطنا خيرا من وطنهم ، وهو المدينة ، وأموالا خيرا من أموالهم ، وهي ما نالوه من المغانم ومن الخراج. روي أن عمر ـ رضياللهعنه ـ كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له : «هذا ما وعدك ربّك في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أكبر» ؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمّها فتح مكّة ، وأمنا في حياتهم بما نالوه من السلطان ، قال تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [سورة النور : ٥٥]. وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة ، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم وبقية أصحابه ـ رضياللهعنهم ـ مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة. وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكّية. ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد.
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).
ومعنى (أَكْبَرُ) أنّه أهمّ وأنفع. وإضافته إلى (الْآخِرَةِ) على معنى (في) ، أي الأمر الذي في الآخرة.
وجملة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) معترضة ، وهي استئناف بياني ناشئ عن جملة الوعد كلّها ، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتد بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) بيانا لما استبهم على السّائل. والتقدير : لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنّهم لا يعلمون. فضمير (يَعْلَمُونَ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة النحل : ٣٩].
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو : كيف يحزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم ، فيكون : المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدّ لهم علم مشاهدة لما حزنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم ، لأن تأثير العلم الحسّي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم