(إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صرفا لألسنتهم عن الشتم. وهذا كما كانوا إذا شتموا النبي صلىاللهعليهوسلم أو هجوه يدعونه مذمما ؛ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لعائشة: «ألم ترى كيف صرف الله عني أذى المشركين وسبّهم ، يسبون مذمما وأنا محمد».
وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعبه صاحب اسم الموصول ، لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكّم.
و (الذِّكْرُ) : مصدر ذكر ، إذا تلفظ. ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء. فالذكر الكلام الموحى به ليتلى ويكرر ، فهو للتلاوة لأنه يذكر ويعاد ؛ إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر ، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين ، وقد شملها قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [سورة الأنبياء : ١٠] وقال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [سورة الزخرف : ٤٤] والمراد به هنا القرآن.
فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن ترد في القرآن.
وكذلك تسميته قرآنا لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته ، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة.
ويدلك لهذا قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [سورة يس : ٦٩] ، فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمدصلىاللهعليهوسلم شعرا ، ووصفه بأنه ذكر وقرآن ، ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة ، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه. فالمراد : أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن ، لا من صنف الشعر ولا من صنف الأساطير.
ثم صار «القرآن» بالتعريف باللام علما بالغلبة على الكتاب المنزّل على محمد كما علمت آنفا.
وإنما وصفوه بالجنون لتوهّمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل ، لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهّما منهم بأن ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء ، فالداعي به غير عاقل.
والمجنون : الذي جنّ ، أي أصابه فساد في العقل من أثر مسّ الجنّ إياه في