ووجود (مِنْ) في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو (نُسْقِيكُمْ) [النحل : ٦٦]. فالتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. وليس متعلقا ب (تَتَّخِذُونَ) ، كما دلّ على ذلك وجود (من) الثانية في قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) المانع من اعتبار تعلّق (مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) ب (تَتَّخِذُونَ) ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقا ب (تَتَّخِذُونَ) مقدما عليه ، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس.
وهذا عطف منّة على منّة ، لأن (نُسْقِيكُمْ) وقع بيانا لجملة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً).
ومفاد فعل (نُسْقِيكُمْ) مفاد الامتنان لأن السقي مزية. وكلتا العبرتين في السقي. والمناسبة أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد ، وقد أطلق العرب الحلب على عصير الخمر والنبيذ ، قال حسّان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة :
كلتاهما حلب العصير فعاطني |
|
بزجاجة أرخاهما للمفصل |
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جعل التذييل بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) عقب ذكر السقيين دون أن يذيّل سقي الألبان بكونه آية ، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار ، ومشتملة على منافع للناس ولذّات. وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ) [سورة النحل : ١١] الآية.
وجملة (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) إلخ في موضع الحال.
و (من) في الموضعين ابتدائية ، فالأولى متعلّقة بفعل (نُسْقِيكُمْ) المقدر ، والثانية متعلقة بفعل (تَتَّخِذُونَ). وليست الثانية تبعيضية ، لأن السكر ليس بعض الثمرات ، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين.
والسكر ـ بفتحتين ـ : الشراب المسكر.
وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم (وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة) فالامتنان حينئذ بمباح.
والرزق : الطعام ، ووصف ب (حَسَناً) لما فيه من المنافع ، وذلك التمر والعنب