استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) [سورة النحل : ٧٣].
فشبّه حال أصنامهم في العجز عن رزقهم بحال مملوك لا يقدر على تصرّف في نفسه ولا يملك مالا ، وشبّه شأن الله تعالى في رزقه إيّاهم بحال الغنيّ المالك أمر نفسه بما شاء من إنفاق وغيره ، ومعرفة الحالين المشبّهتين يدلّ عليها المقام ، والمقصود نفي المماثلة بين الحالتين ، فكيف يزعمون مماثلة أصنامهم لله تعالى في الإلهية ، ولذلك أعقب بجملة (هَلْ يَسْتَوُونَ).
وذيّل هذا التمثيل بقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كما في سورة إبراهيم [٢٦] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) إلى قوله تعالى : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) الآية ، فإن المقصود في المقامين متّحد ، والاختلاف في الأسلوب إنما يومئ إلى الفرق بين المقصود أولا والمقصود ثانيا كما أشرنا إليه هنالك.
والعبد : الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشّراء أو بالإرث.
وقد وصف (عَبْداً) هنا بقوله : (مَمْلُوكاً) تأكيدا للمعنى المقصود وإشعارا لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرّف في عمله تصرف الحرّية.
وانتصب (عَبْداً) على البدلية من قوله تعالى : (مَثَلاً) وهو على تقدير مضاف ، أي حال بعد ، لأن المثل هو للهيئة المنتزعة من مجموع هذه الصّفات. وجملة (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) صفة (عَبْداً) ، أي عاجزا عن كلّ ما يقدر عليه الناس ، كأن يكون أعمى وزمنا وأصمّ ، بحيث يكون أقل العبيد فائدة.
فهذا مثل لأصنامهم ، كما قال تعالى : والذين تدعون (مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [سورة النحل : ٢٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) [سورة العنكبوت : ١٧].
و (مَنْ) موصولة ما صدقها حرّ ، بقرينة أنه وقع في مقابلة عبد مملوك ، وأنه وصف بالرزق الحسن فهو ينفق منه سرّا وجهرا ، أي كيف شاء. وهذا من تصرّفات الأحرار ، لأن العبيد لا يملكون رزقا في عرف العرب. وأما حكم تملّك العبد مالا في الإسلام فذلك يرجع إلى أدلّة أخرى من أصول الشريعة الإسلامية ولا علاقة لهذه الآية به.