بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ). فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جرّاء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمه إلى التوجه إليه وحده ، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله ، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقا ما ، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها ، مما وراء الكرة الهوائية.
ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلا.
ثم هذه التموجات التي تخلص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطّعة مجملة فيستعين أصحاب تلك النّفوس على تأليفها وتأليفها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة ، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألّفوه وما أولوه. وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء ، وعلى مقدار دربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها. فهؤلاء هم الكهان ، وكانوا كثيرين بين قبائل العرب. وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم. ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثرا ما ، وكان أقوامهم يعدون المعمّرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به ، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم البله من مريديهم لا يصدرون إلّا كلاما مجملا موجها قابلا للتأويل بعدة احتمالات ، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح ، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للنّاس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلمات ، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة.
وهم بحيلتهم واطلاعهم على ميادين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزما فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع ، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلا على مصادفتها الحق والواقع ، وأنها أمارة صدق. وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة ، ويكثرون النظر في النجوم ليلا لتتفرغ أذهانهم. فهذا حال الكهان وهو قائم على أسس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة.
وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من «صحيح البخاري» عن عائشة : أن ناسا سألوا