وثانيها : أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح ، فجاءت بما لم تجىء به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك ، ولم يكن السجود من قبل محظورا فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف ـ عليهمالسلام ـ وكانوا أهل إيمان.
وثالثها : أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي ، ولا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا.
وقوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) عنوان على طاعة الملائكة.
و (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تأكيد على تأكيد ، أي لم يتخلّف عن السجود أحد منهم.
وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) تقدم القول على نظيره في سورة البقرة وسورة الأعراف.
وقوله هنا (أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) بيان لقوله في سورة البقرة [٣٤] (وَاسْتَكْبَرَ) ، لأنه أبى أن يسجد وأن يساوي الملائكة في الرضى بالسجود. فدلّ هذا على أنه عصى وأنه ترفّع عن متابعة غيره.
وجملة (ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) استفهام توبيخ. ومعناه أي شيء ثبت لك ، أي متمكنا منك ، لأن اللام تفيد الملك. و (أَلَّا تَكُونَ) معمول لحرف جر محذوف تقديره (في). وحذف حرف الجر مطرد مع (أن). وحرف (أن) يفيد المصدرية. فالتقدير في انتفاء كونك من الساجدين.
وقوله : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) جحود. وقد تقدم أنه أشد في النفي من (لا أسجد) في قوله تعالى : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ) في آخر العقود [المائدة : ١١٦].
وقوله : (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) تأييد لإباءته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقير ذميم لا يستأهل السجود. وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية ، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن. فشتّان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة. وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص [٧٦] إذ قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ