وبالجملة : تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالى والبعد عنه ، سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها والنار ودركاتها ، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها ، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلل.
وإن قلت : على هذا (١) فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.
قلت : ذلك (٢) لينتفع به من حسن سريرته وطابت طينته لتكمل به نفسه ، ويخلص مع ربه أنسه ، ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، قال الله «تبارك وتعالى» : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
______________________________________________________
بإرادة الفاعل واختياره ؛ لما في نفسه من القيومية والقدرة على الفعل والترك ، فهذه الإرادة من أفعال النفس ، وقائمة بها نحو قيام صدوري ، فإن الله «تعالى شأنه» خلقها مختارة فيما تشاء من فعل شيء أو تركه ، وليس المراد بالإرادة هنا هو الشوق المؤكد التي هي صفة نفسانية قائمة بها قياما حلوليا وخارجة عن الاختيار ومنتهية إلى الشقاوة الذاتية.
والحاصل : أن مناط اختيارية الفعل هو صدوره عن إرادة ناشئة من قيومية النفس التي هي بحسب خلقتها قادرة على الفعل والترك ، ومتعلق التكاليف هو : الفعل الصادر عن هذه الإرادة ؛ لا الإرادة المنتهية إلى الشقاوة الذاتية كما ذكره المصنف «قدسسره» وأوقع نفسه الشريفة في حيص وبيص ، هذا.
مضافا إلى : «إن الإرادة المتوقفة على مباديها لا توجب خروج النفس عن قدرتها على كل من الفعل والترك ؛ بحيث يصدر الفعل قهرا كصدور الإحراق من النار ، بل قيومية النفس باقية أيضا ، غايته : أن هذه الإرادة تكون مرجحة للفعل على الترك ، فتختاره النفس لأجلها على الترك ، وقد لا تكون مرجحة له فلا تختاره ، فهذه الإرادة ـ بعد تسليم كونها مرادة هنا ـ لا تسلب قدرة النفس وفاعليتها كما هو ظاهر».
(١) أي : على الذي ذكرتم من أن الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان من تبعات الذات ، «فلا فائدة في بعث الرسل ...» الخ ؛ إذ المؤمن والمطيع يؤمن بنفسه ويطيع ، كما أن النار تحرق بنفسها من غير حاجة إلى الإرشاد.
وبعبارة أخرى : يكون بعث الرسل وإنزال الكتب لغوا ؛ إذ المفروض : ذاتية الخبث والشقاوة ، والذاتي لا يزول ولا ينفك عن الذات ، فلا يؤثر إرسال الرسل في ارتفاع الذاتي.
(٢) أي : ما ذكر من بعث الرسل وإنزال الكتب لا يكون لغوا ، بل تترتب عليه فائدتان : إحداهما : انتفاع من حسنت سريرته به ، لتكمل به نفسه.
ثانيتهما : إتمام الحجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ؛ بل كان له الحجة البالغة ؛ كما أشار إليه بقوله : «وليكون حجة على