التعويل عليهما ، ولا سيّما في اللغات الّتي لا يدار أمرها إلاّ على الأسباب المعهودة عند العرف ، المتعارفة لدى أهل اللسان الّذين هم المرجع في معرفة أحكام لسانهم ومعالم لغتهم.
واجيب عن أوّل حجّتي القول الثاني : بأنّ الاستقباح قد يكون من جهة نفس الاستعمال بحسب اللغة ، وقد يكون من جهة ما يدلّ عليه اللفظ بحسب العرف نظرا في ذلك إلى خصوصيّة المقام ، والّذي يشهد بالخروج عن الوضع هو الأوّل دون الثاني ، فإن أريد بالاستقباح المدّعى هذا المعنى كان ممنوعا ، بل هو على إطلاقه فاسد قطعا ، لجواز الاستعمال فيه في الجملة عند الجميع ولو على سبيل المجاز ، ولا قبح فيه أصلا.
نعم لو كان الاستعلاء منفيّا في ذلك المقام أيضا فربّما أمكن ما ذكر ، إلاّ أنّه لا يفيد المدّعى بل يوافق القول باعتبار الاستعلاء.
وإن أريد به الثاني فهو لا يفيد المنع اللغوي ، بل فيه شهادة على الاكتفاء فيه بالاستعلاء ، نظرا إلى كون القبح فيه من جهة استعلائه على الأمير المخالف للتأدّب معه ، ألا ترى أنّه لو طلب شيئا من الأمير على جهة الاستعلاء صحّ أن يقال له على جهة الانكار : « أتأمر الأمير؟ » من غير استقباح.
وأنت خبير بما في هذا الكلام من أوّله إلى آخره من الفساد وخروجه عن نهج السداد ، فإنّ الاستقباح قد ينشأ عن عدم انطباق الاستعمال على قانون الوضع واللغة كما في قول القائل : « خذ هذا الكتاب » مشيرا إلى الفرس ، وقد ينشأ عن عدم انسياق مدلول اللفظ ولو بحسب الوضع واللغة إلى ما يقتضيه المقام بحسب العرف والعادة ، بأن يكون جاريا على ما لا يناسبه في نظرهما من خصوص ذلك المقام ، كما لو قال : « أدّبت أبي » أو « أهنته » من فعل بأبيه ما يقتضي تأديبه أو إهانته ، فإنّه لم يخالف شيئا من قانون الوضع واللغة مع إفادته القبح الواضح ، وقد ينشأ عن الأمرين معا كما في قول القائل : « يا ديّوث » خطابا إلى أبيه العدل والورع ، فلذلك ترى أنّه يحصل لو قيل بمثل ذلك لعدل آخر غير الأب ، إلاّ أنّه في حقّه أشدّ استقباحا منه في غيره ، وليس ذلك إلاّ من جهة الاعتبار الثاني.
وظاهر أنّ قول القائل : « أمرت الأمير » من هذا الباب ، وأقوى ما يشهد به ما لو قال بعد القول الأوّل : « وما أمرت بل سألته » لكان صحيحا من دون استهجان ولا استقباح ، فلو لا صدق هذه القضيّة ـ وكذلك نظرا إلى استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ـ لما كان لذلك وجه ، فينتهض تلك دليلا على عدم كون إطلاق « الأمر » هنا في محلّه ، لكون صحّة السلب