وأمّا الثاني : فلأنّ التكليف لابدّ وأن يتعلّق بالمقدور لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، والماهيّة إذا امتنع وجودها غير مقدورة فلا تصلح لأنّ يتعلّق التكليف بها.
واجيب : بأنّ الماهيّة قد تؤخذ بشرط أن يكون مع بعض العوارض كالإنسان بقيد الوحدة فلا يصدق على المتعدّد ، وبقيد هذا الشخص فلا يصدق على فرد آخر ويسمّى الماهيّة المحلوظة والماهيّة بشرط شيء ولا ريب في وجودها في الأعيان ، وقد تؤخذ بشرط التجرّد عن جميع العوارض وتسمّى الماهيّة بشرط لا ، ولا خفاء في أنّها لا توجد في الأعيان بل في الأذهان ، وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجرّدة بل مع تجويز أن يقارنها العوارض وأن لا يقارنها ويسمّى بالماهيّة من حيث هي والماهيّة لا بشرط ، وهي بهذا المعنى ممّا يمكن وجودها في الأعيان ، فيجوز أن يكون المطلوب هو الماهيّة من حيث هي لا بقيد الكلّيّة ولا بقيد الجزئيّة ، وإن كانت لا تنفكّ في الوجود عن أحدهما وهذه لا يستحيل وجودها ، لأنّ الكلّيّة المنافية للوجود العيني ليست قيدا فيها وشرطا لها ، فلا يلزم أن يكون المطلوب هو الجزئي من حيث هو جزئي كما ذكروه.
فإن قيل : الكلّيّة والجزئيّة متنافيان ، فعدم اعتبار أحدهما يوجب اعتبار الآخر لئلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.
قلنا : عدم اعتبار النقيضين غير ارتفاعهما واللازم هو الأوّل ، والمحال هو الثاني.
أقول : الأولى في الجواب منع المقدّمة الاولى ـ لأنّها الّتي أوجبت الشبهة ـ بمنع لزوم التناقض لو اتّصفت الماهيّة بالكلّيّة والجزئيّة ، فإنّ الحيثيّة إذا تعدّدت وكانت تقييديّة أوجبت تعدّد الموضوع ، فالمتّصف بالكلّيّة إنّما هي الماهيّة المجرّدة والمتّصف بالجزئيّة هي الماهيّة المقيّدة فلا يلزم التناقض ، كما لا يلزم تعلّق الحكم بغير المقدور ، لإمكان الامتثال بإيجاد الفرد المحصّل لها ، كما لا يلزم اعتبار الوجود في متعلّقه ليكون جزئيّا.
وقد يجاب أيضا : بأنّهم لو أرادوا بالجزئي فردا معيّنا فهو باطل قطعا ، لعدم دلالة اللفظ عليه رأسا ، وإن أرادوا جزئيّا غير معيّن فوقعوا في المحذور الّذي فرّوا عنه فإنّه أيضا كلّي ، وأيضا يلزم المجاز في كلّ الأوامر بل النواهي وغيرهما أيضا وفيهما ما لا يخفى من الوهن (١) كوهن ما لو أورد عليهم : بأنّ الفعل قبل الأمر إمّا حاصل من المكلّف وموجود في
__________________
(١) ذكرها بعض الأعاظم تبعا لبعض الأعلام ، والوجه في وهن الأوّل : أنّ لزوم المحذور على إرادة احتماله الثاني إن