ألا ترى أنّهم في تفسير « الأمر » بكونه طلب الفعل بالقول أو مطلقا استعلاء من العالي أو لا معه ، أو لا معهما أو مع العلوّ فقط أو غير ذلك من الخلافات المتقدّمة في مفتتح الكتاب قيّدوه بالاصطلاح ، مع أنّهم لا يريدون به إلاّ تعريف المعنى العرفي الّذي ينساق منه عند الإطلاق ، وإنّما قيّدوه بذلك لأنّه تفصيل لما يفهمه العرف إجمالا ولا يقدر على التعبير عن تفاصيله بما عبّروا به من العبارات ، ولكون ذلك من خصائصهم فكأنّه أمر مستحدث لم يكن معهودا في العرف.
وبالتأمّل في بناء العرف وقضاء القوّة العاقلة يقطع بأنّ الإرادة والطلب المعتبرين في مفهوم « الوجوب » بل الكراهة والطلب المأخوذين في مفهوم « الحرمة » أعمّ من الفعلي والشأني ، والمراد به كون الشيء باعتبار ما في ذاته من المصلحة الكامنة بحيث لا ينبغي لكلّ من التفت إليه وإلى مصلحته إلاّ إرادته فعلا وطلبه حتما بعبارة مصرّحة به ، إلاّ إذا علم بكون القضيّة الشأنيّة معلومة لكلّ من لا يصرّح له بالطلب ولا يريده منه تفصيلا ، حيث نراهم لا يزالون يعاملون مع الطلبات الشأنيّة معاملة الفعليّات وينزّلون الإرادات الإجماليّة منزلة التفصيليّات ، كما نرى القوّة العاقلة لا تأبى عن عقاب من يخالفها في مظانّها مع علمه بالقضيّة الشأنيّة ، فلذا يذمّ ويعاقب العبد التارك لإنقاذ ولد سيّده عن الغرق أو الحرق ، ولإنجاء سيّده عن أيادي أعدائه مع قدرته عليه ، ولحفظ مال سيّده عن اللصّ والإغارة مع تمكّنه منه ، ولدفع السبع عن بهيمته ولرفع المضارّ عنه ، وعن كلّ من يتعلّق به مع عدم أمر منه بشيء من ذلك فعلا ولا إيجاب تفصيلا ، وكذلك العبد إذا قتل ابن مولاه أو أخرب بيته أو خانه في بنته أو زوجته أو سائر محارمه ومتعلّقاته ونحو ذلك ممّا لا يحصى ، مع عدم نهي منه عن شيء من ذلك فعلا ولا منع تفصيلا ، فلولا كفاية القضايا الشأنيّة في انعقاد الإلزاميّات لما كان لذلك وجه ، ضرورة أنّ الذمّ والعقاب لا يستحقّهما إلاّ العاصي ولا عصيان إلاّ مع الوجوب أو التحريم.
فانتفاء الطلب الفعلي والإرادة أو الكراهة التفصيليّة ينشأ إمّا عن عدم الالتفات إلى الموضوع أو صفته فعلا ، أو الاعتماد على معلوميّة القضيّة الشأنيّة للمكلّف بحكم عقله ، وهذا أحد المحتملات الجارية عندنا فيما حكم به العقل في مستقلاّته وإن لم نر من القوم التعرّض لذكره ، بناءا على أنّ معنى حكم العقل إدراكه للحكم الشرعي كما هو الأظهر في النظر القاصر لا كونه مثبتا له.