يستحيل انفكاكها عنها في نظر العقل والعادة ، وأنّ ما يسامح في طلبها بعدم التصريح به فعلا فإنّما هو للتعويل على طلبها الثابت لها شأنا على كلّ حال ، وأنّ الطلب الشأني قائم مقام الفعلي في جميع الأحكام والأحوال.
وكأنّ هذا المعنى مراد من تمسّك في هذا المقام بالاستقراء ، فلا يرد عليه ما في كلام بعض الأفاضل وغيره من منع الغلبة أوّلا ، ومنع اعتبار ما يحصل منها في أمثال المقام ثانيا ، فإنّ أقصاه ظنّ غير كاف في الأحكام العقليّة ، فإنّ مبنى الاستدلال ليس على التمسّك بالغلبة بل بما يورث الحدس بالمطلوب كائنا ما كان.
ثمّ إنّه قد عرفت أنّ أقصى ما يلزم من الوجوه المذكورة بالنسبة إلى المقدّمة إنّما هو الوجوب الشأني ، وهو ربّما يوجب التشكيك في انطباق مصطلحهم في الوجوب وصدقه عليه ، إذ التفاسير الّتي ذكروها له اصطلاحا لا ينساق منها إلاّ الطلب الفعلي ، بل بمقتضى أنّ الخمس المعهودة بأسرها مجعولة لا يندرج في المجعول إلاّ ما هو مراد فعلا مطلوب تفصيلا ، فإثبات الأمر الشأني ممّا لا يكاد ينفع في المقام.
ولعلّ ذلك دعا غير واحد من الأعلام إلى توهّم كون موضع النزاع من الوجوب هو الأصلي المقصود بالخطاب أصالة ، وهذا إشكال قد أشرنا إليه في غير موضع ممّا تقدّم ، ولا سيّما في تقرير الأدلّة مع الإشارة إلى دفعه إجمالا ، بل هو أحد احتمالي أصل النزاع في المسألة كما أشرنا إليه عند تحرير محلّ النزاع ، وإن كان خلاف الظاهر بل الظاهر أنّه محلّ لنزاع آخر بينهم ، حيث نفى الوجوب عن هذا المعنى بعضهم وأثبته الآخرون ، ولا بأس بأن نفصّل الكلام فيه ونقرّر ما يقضي بكون ذلك كافيا في تحقّق مصداق الوجوب عرفا واصطلاحا على وجه ينكشف به الحجاب ويرتفع بملاحظته الإشكال ، مع عدم كونه خروجا عن أصل المطلب لكونه بحثا في صغرى المسألة ، كما أنّ المقصود بالعنوان بحث عن كبراها.
فنقول : إنّ التفاسير الّتي ذكروها للوجوب وقيّدوها بالاصطلاح ليست كسائر الامور الاصطلاحيّة الحادثة الّتي لا عبرة فيها إلاّ بما يساعده ظواهر أهل الاصطلاح ، ولا طريق إلى معرفتها إلاّ ما يقتضيه القواعد الجارية في لسانهم ، بل هي تحديدات استفادوها عمّا عليه طريقة العرف والعادة ، ورسوم أخذوها عمّا يقضي به القوّة العاقلة ، وغرضهم بها بيان ما هو حقيقة الوجوب عند العقلاء وما عليه مدار المدح والثواب أو الذمّ والعقاب عقلا وشرعا ، وينوط به جميع الالزامات والالتزامات ممّا يرجع إلى المعاد أو المعاش.