ومن هنا تبيّن فساد ما قد يتمسّك به على نفي وجوب المقدّمة من أنّ الآمر كثيرا مّا يأمر وهو غافل وذاهل عن المقدّمة فضلا عن طلبها ، فإنّ الغفلة والذهول عن طلبها التفصيلي لا ينافي كونها مطلوبة عنده بالطلب الشأني الّذي هو لازم لطلب ذيها من باب الإشارة الّتي هي لازمة للمقصود ، لا أنّها مقصودة كما في أقلّ الحمل المدلول عليه بالآيتين.
ومن البيّن أنّ ذلك من الدلالات المعتبرة عرفا المتّبعة شرعا كما صرّح به غير واحد من فحول علماء الاصول.
والثالث : طريقة العرف وبناء العقلاء على الالتزام بإيجاد مقدّمات الواجب وتنزيل ما لم يصرّح منها بطلبه منزلة ما صرّح بطلبه تفصيلا ، وليس ذلك إلاّ من جهة ما صحّ عندهم ببداهة عقولهم من أنّ إيجاب الشيء ملزوم لإيجاب ما لا يتمّ إلاّ به باللزوم الغير البيّن ، بمعنى كونه لازما للمقصود وإن لم يكن مقصودا بالفعل.
ألا ترى أنّه لو سئل أحدهم عند الإتيان بمقدّمة عن وجه الإتيان بها فهو لا يزال مجيبا بأنّه لإلزام المولى أو من هو بمنزلته وأمره به.
وأقوى من ذلك أنّ المأمور المتقاعد عن الامتثال لو اعتذر لمن سأله عن تقاعده بأنّ الآمر لم يكن أوجب عليه مقدّمة المأمور به ولا صرّح بطلبها تفصيلا لخطّأه الحاضرون وأدرجوا عبارته في الهذيانات وعبارات المجانين والسفهيّات ، ونبّهوه على أنّ ذلك حاصل بحصول الأمر ولازم لمضمونه المتعلّق بما هو مطلوب به أصالة ولا يحتاج معه إلى تصريح ولا خطاب آخر.
والرابع : ما صحّ عند العدليّة من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والحكم النفس الأمريّة.
ومن البيّن أنّ المصلحة في كلّ شيء بحسبه ، وكما أنّ ذا المقدّمة فيه مصلحة أصليّة كامنة فيه لنفسه فكذلك المقدّمة فيها مصلحة تبعيّة حاصلة فيها لغيرها وهي كونها ممّا يوصل إلى الغير وتركها يفضي إلى ترك ذلك الغير ، وكما أنّ المصلحة النفسيّة توجب في محلّها الطلب النفسي ولو شأنا فليكن المصلحة الغيريّة أيضا موجبة للطلب الغيري في محلّها وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن العلّة ، أو اللازم عن الملزوم ، وليس لأحد أن يعترض بأنّه لو كان لصرّح به والتالي [ باطل ] لأنّ التصريح غير لازم والطلب الشأني غير منوط به ، والكلام في جواز الاكتفاء به وسنقرّره.
والخامس : الاستقراء فيما أمر به من المقدّمات في الشريعة وما يؤمر به منها في العرف والعادة ، فإنّه ممّا يورث القطع بأنّ المقدّمة بطبعها ملزومة للطلب وأنّه من لوازمها الّتي