ومن البيّن أنّ الإيجاب عرض من مقولة الفعل قائم بالآمر ، والوجوب عرض من مقولة الكيف قائم بالفعل المأمور به ، فكيف لا يفرّق بينهما ذاتا.
نعم لا فائدة تترتّب على ذلك الفرق لكونهما متلازمين ، استحالة انفكاك الأثر عن المؤثّر ، وكلّ إيجاب يلزمه ترتّب الوجوب عليه وكلّ وجوب يلزمه كونه حاصلا من إيجاب.
نعم لابدّ في ثبوت تلك الملازمة من مراعاة التناسب بين مفهوميهما ، فإن فسّر الوجوب (١) بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب فلابدّ من تفسير الإيجاب بجعل الفعل على هذه الحيثيّة.
وإن فسّر الإيجاب بطلب الفعل مع عدم الرضا بالترك فلا بدّ من تفسير الوجوب بكون الفعل مطلوب الحصول ممنوع الترك.
وأمّا لو فسّر الأوّل بالأوّل والثاني بالثاني لكان الفرق بينهما ذاتا واعتبارا في غاية الوضوح.
وممّا قرّرنا تبيّن لك أنّ ما اعترض على عبارة المصنّف وكلّ من وافقه في التعبير بأنّ المستفاد من الصيغة ـ بناء على القول المذكور ـ إنّما هو إيجاب الفعل على المأمور وإلزامه به ، ووجوب الفعل عليه متفرّع على الإيجاب تابع له ، فلا يتّجه جعله موضوعا له للصيغة بل ينبغي جعلها للإيجاب ، في محلّه.
فلا يرد عليه ما أفاده بعض الأفاضل في ردّه من أنّ الإيجاب والوجوب بمعنى واحد ، ولا فارق بينهما بحسب الحقيقة ، فإنّ ذلك مفهوم اخذ واسطة في انتساب الحدث إلى فاعله ومرآة لملاحظة حال ذلك المنسوب بالنظر إلى ما نسب إليه ، فإن لوحظ بالنسبة إلى ذلك الحدث سمّي وجوبا ويوصف معه الفعل بالوجوب ، وإن لوحظ بالنسبة إلى الآمر من حيث
__________________
(١) واعلم أنّ الوجوب في اللغة ـ على ما في النهاية ـ هو السقوط ، يقال : « وجبت الشمس والحائط » أي سقطا ، والثبوت والاستقرار ، وأمّا في العرف الشرعي فعند المعتزلة أنّ الواجب : « ما يستحقّ تاركه الذمّ ، أو ما يكون على صفة باعتبارها يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، أو ما يكون تركه في جميع وقته سببا للذمّ » وأمّا الأشاعرة فقد رسمه القاضى أبو بكر بأنّه : « ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه » فقولنا : « يذمّ » خير من قولنا : « يعاقب » لأنّ الله تعالى قد يعفو عن العقاب ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ومن قولنا : « يتوعّد بالعقاب على تركه » لأنّ الخلف في خبر الله تعالى محال فكان ينتفي العفو ، ومن قولنا : « ما يخاف العقاب على تركه » فإنّ المشكوك في وجوبه وحرمته يخاف من العقاب على تركه مع أنّه غير واجب ، وقولنا : « شرعا » ليخرج منه الواجب على مذهب من يوجب الأحكام عقلا وقولنا : « على بعض الوجوه » ليدخل فيه المخيّر فإنّه يلام على تركه إذا ترك معه بدله ، والموسّع لأنّه يذمّ إذا أخلّ به في جميع الوقت ، والواجب على الكفاية لأنّه يذمّ إذا أخلّ به الجميع ( منه ).