بالأوّل وادّعيت لنفسك ما ليس لك إليه سبيل وكيف تقول بالثاني ، مع أنّك تعترف أنّه ليس علاقة عقليّة بين وجود هذا اللفظ ووجود تلك الهيئة ، بل اللفظ كاشف عنه ومتأخّر عنه في الوجود ، فيلزم أن يوجد أوّلا حتّى يكشف اللفظ عنه ويدلّ عليه ، فلو كان شيئا موجودا لكان موجودا قبل اللفظ من غير توقّف عليه ولا استلزام له.
وبالجملة : كيف يسوّغ أن يكون مدلول الصيغة المتداولة عند الخاصّة والعامّة معنى نفسانيّا ولا يجده العقلاء من أنفسهم ، ولا يميّزونه بقولهم وأفكارهم ، وهل هذا إلاّ مكابرة واضحة يحكم الحدس الصحيح ببطلانه؟
وإذا أثبتنا أنّ إيجاب الشيء يستلزم إرادته ونحن نعلم قطعا أنّه إذا تعلّق إرادتنا الحتميّة بوجود الشيء ونعلم أنّه لا طريق إلى إيجاده إلاّ بإيجاد شيء معيّن لا يمكن أن يحصل إلاّ به لتعلّق إرادتنا الحتميّة بإيجاد ذلك الشيء البتّة ، وهذا بديهيّ بعد ملاحظة الطرفين وتجريدها عن العوارض وإن حصل التوقّف في بادئ النظر ، فإذن ثبت أنّ إيجاب الشيء يستلزم الإرادة الحتميّة المتعلّقة بمقدّماته ، فيكون المقدّمة واجبة إذ ليس الواجب عند أصحابنا إلاّ هذا. انتهى.
وملخّصه : أنّ حقيقة التكليف هي الإرادة والألفاظ كاشفة عنها ، وكما أنّ اللفظ يصلح لكونه كاشفا فكذلك العقل يصلح لذلك.
ومن المعلوم بالوجدان أنّ العقل حاكم بأنّ من كان مريدا لشيء له مقدّمات فهو مريد لمقدّماته أيضا ، ولا نعني بالوجوب إلاّ هذا.
وجوابه : منع الدعوى على تقدير ، وفساد الابتناء ـ مع تسليم صحّتها ـ على آخر ، وبطلان المبنى على فرض صحّة الابتناء على ثالث.
وتوضيح ذلك : أنّ الإرادة الّتي يدّعى كونها حقيقة التكليف إن أريد بها الإرادة التفصيليّة بالنسبة إلى المقدّمة على حدّ ما تعلّق بذيها.
ففيه : أنّه خلاف ما وجدناه حسبما قرّرناه عند الاحتجاج بالأدلّة الصحيحة ، كيف وإنّ كثيرا مّا نرى الآمر يأمر بالشيء ولا التفات له إلى مقدّماته فضلا عن كونه مريدا لها بالتفصيل ، وما عساه يناقش بأنّ الكلام في الأوامر الإلهيّة الّتي يمتنع صدورها على وجه الغفلة فلا وقع لهذا الكلام قد ظهر دفعه ثمّة.
وإن اريد بها الإرادة الإجماليّة حسبما اخترناه ، فهو وإن كان مسلّما غير أنّ بناء ثبوته