فتحقيق المقال في ذلك أن يقال : إنّ من أطلق الطلب على الإرشاد إن أراد به ما ذكرناه في توجيه كلامه فلا كلام ، وإلاّ ففيه منع واضح من القطع بخلوّ الإرشاديّات عن الطلب بالمعنى الملحوظ في الوجوب والندب ، وكونها يقصد بها مجرّد الاراءة إلى طريق الوصول إلى المصالح المترتّبة على الفعل ، والهداية على سبيل التحرّز عن المفاسد المتفرّعة على الترك ، من غير فرق في ذلك بين كون المصلحة من الامور المتعلّقة بالدين كما في أوامر الوعّاظ ونحوهم ، أو الامور المتعلّقة بالدنيا كما في أوامر الطبيب ونحوه ، أخذا بما يساعده فهم العرف وضرورة الوجدان ، مع أنّ ما ذكروه وجها للفرق ينتقض في عكسه بالنظر إلى الندب بأوامر السلطان وغيره من الموالي والمخدومين ، فإنّها في الغالب واجبات أو مندوبات مع عدم اشتمال شيء بما يرجع إلى الآخرة لانحصار مصالحها فيما يترتّب على امور دنياهم ، وفي طرده بالنظر إليه بأوامر الوعّاظ حسبما عرفت ، وفي عكسه أيضا بالقياس إلى الإرشاد بمثل قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(١) و ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ )(٢) و ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )(٣) و ( اعْبُدْ رَبَّكَ )(٤) ونظير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، ضرورة كونها من باب الإرشاد على ما يراه المحقّقون ، ويرجّحه النظر الدقيق القاضي بعدم كونها من باب الوجوب ولا الندب.
أمّا الأوّل : فللقطع بعدم تعدّد العقاب في ترك الطاعة.
وأمّا الثاني : فللجزم بعدم تعدّد الثواب في فعلها.
ومن المعلوم أنّ انتفاء اللوازم أقوى دليل على انتفاء الملزوم ، مع أنّ الطلب من الشارع لا بدّ وأن يتبع الصفة الكامنة في ذات المطلوب من حيث هو ، والطاعة والتقوى والاتّباع والعبادة ونحوها ليست إلاّ مفاهيم كلّيّة اعتباريّة منتزعة عن العنوانات المخصوصة الّتي تعلّق بها الأوامر الحقيقيّة ، فلا يكون فيها بخصوصها صفة اخرى زائدة على الصفات الكامنة في العنوانات المندرجة تحتها ، فلا يتصوّر حينئذ حمل تلك الأوامر على أحد الوجهين ، وإلاّ لا نخرم قاعدتهم المتّفق عليها المشار إليها ، فلا يبقى ما يصلح لحملها عليه إلاّ الإرشاد وهو المطلوب مع عدم اشتمال شيء منها على المصالح الدنيويّة.
وفي طرده أيضا بالقياس إليه بالأوامر الواردة مورد التقيّة ، فإنّ الظاهر ورودها لمراعاة
__________________
(١) النساء : ٥٩.
(٢) آل عمران : ١٠٢.
(٣) آل عمران : ٣١.
(٤) الحجر : ٩٩.