أُسر وهو جريحٌ وقد أصابه سهمٌ بقي نصله في فخذه ، وحُمِل مثخناً إلى خَرْشَنَة ثم إلى القسطنطينية وأقام في الأسر أربع سنين لتعذّر المفاداة ، واستفكّه من الأسر سيف الدولة سنة (٣٥٥) ، وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض ، واستزادة سيف الدولة ، وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبّائه ، والتبرّم بحاله ومكانه ، عن صدر حرج ، وقلب شجيٍّ ، تزداد رقّةً ولطافةً ، تُبكي سامعها ، وتعلق بالحفظ لسلاستها ، تُسمّى بالروميّات.
قال ابن خالويه : قال أبو فراس : لمّا حملت إلى القسطنطينية أكرمني ملك الروم إكراماً لم يكرمه أسيراً قبلي ، وذلك أنّ من رسومهم أن لا يركب أسيرٌ في مدينة ملكهم دابّة قبل لقاء الملك ، وأن يمشي في ملعب لهم يعرف بالبطوم مكشوف الرأس ، ويسجد فيه ثلاث سجدات أو نحوها ، ويدوس الملك رقبته في مجمع لهم يعرف بالتوري ، فأعفاني من جميع ذلك ونقلني لوقتي إلى دار وجعل لي برطسان (١)) يخدمني ، وأمر بإكرامي ، ونقل من أردته من أسارى المسلمين إليّ ، وبذل لي المفاداة مفرداً ، وأبيت بعد ما وهب الله لي من الكرامة ورُزقته من العافية والجاه أن أختار نفسي على المسلمين ، وشرعت مع ملك الروم بالفداء ، ولم يكن الأمير سيف الدولة يستبقي أُسارى الروم ، فكان في أيديهم فضل ثلاثة آلاف أسير ممّن أُخذ من الأعمال والعساكر ، فابتعتهم بمائتي ألف دينار روميّة على أن يوقع الفداء وأشتري هذه الفضيلة ، وضمنت المال والمسلمين ، وخرجتُ بهم من القسطنطينية ، وتقدّمتُ بوجوههم إلى خَرْشَنَةَ ، ولم يعقد قطُّ فداء مع أسير ولا هدنة ، فقلت في ذلك شعراً (٢) :
ولله عندي في الأسارِ وغيرِهِ |
|
مواهبُ لم يُخْصَصْ بها أحدٌ قبلي |
حَلَلْتُ عقوداً أعجزَ الناسَ حلُّها |
|
وما زال عقدي لا يُذمُّ ولا حَلِّي |
__________________
(١) البرطسان : لفظ معرّب ، ومعناه الذي يكتري للناس الإبل والحمير.
(٢) ديوان أبي فراس : ص ٢٣٧.