قبل أخيه أو بعده ، ولكن يخيّل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أنّ الأبيات البائيّة كانت آخر ما رثى به ولداً ، لأنّها تنمُّ عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين ، حتى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلاّ الأسى الملتهب في الضلوع ، وإلاّ العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكلّ هذه الفجائع ، وقد كان رثاؤه لابنه الأوسط صرخة الضربة الأولى ، ففيها ثورةٌ لاعجةٌ تحسّ من خلل الأبيات ، ثمّ حلّ الألم المرير محل الألم السوّار في مصيبته الثانية ، فوجم وسكن واستعبر ، ثمّ كانت الخاتمة فهو مستسلمٌ يعجب للحزن كيف لم يقضِ عليه ، ويحسّ وقدة المصاب في نفسه ولا يحسّه في عينيه ، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلّها ، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعاً ، فتمّت بها مصائبه وكبر عليه الأمر ... إلخ.
تعليمه
ذلك كلّ ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ، ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيّام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم وتتلمذ له من العلماء والرواة ، فإنّ هذه المصادر خلوٌ ممّا يُفيد في هذا المقام إلاّ ما جاء عرضاً في الجزء السادس من الأغاني (١) ، حيث يروي ابن الرومي عن أبي العبّاس ثعلب ، عن حمّاد بن المبارك ، عن الحسين بن الضحّاك. وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة ، عن عمر السكوني بالكوفة ، عن أبيه ، عن الحسين بن الضحّاك ، فيصح أن تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ ، لأنّ ثعلباً ولد سنة مائتين ، فهو أكبر من الشاعر بإحدى وعشرين سنة. أمّا قتيبة ـ والمفهوم أنَّه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدّث العالم المشهور ـ فجائز أن يكون ممّن أمْلَوا عليه وعلّموه ، لأنَّه مات وابن الرومي يناهز العشرين.
وقد مرّ بنا أنَّه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسّابة الكبير ، وسنرى
__________________
(١) الأغاني : ٧ / ١٩٤.